ليس عجيباً أن تجد أحدهم يمارسُ التعسف والتكلف والانتقائية وليّ أعناق الحقيقة! في محاولةٍ منه لتجميل صورة بني أمية وبني العباس باستخدام مساحيق التبرج المشرعنة! فالانحيازُ إلى فكرةٍ معلَّبةٍ سابقةِ التجهيز، ثم تطويع الأحداث لتخدم هذه الفكرة في نهاية المطاف، خطيئةٌ منهجية ونقدية وفكرية قلّ أن يسلم منها أحد. لكنّ ما لا ينقضي منه عجبي حقاً أن يكون هؤلاء الأشخاص ممن يشنون الغارة تلو الغارة، على المستبدين تارةً وعلى الطغاة تارةً، حتى إذا ذُكِرَ "بنو أمية" استحالَوا حملاً وديعاً، فانكسروا غاية الانكسار والتمسوا لهم كافة الأعذار، ولو أنهم عاشوا في زمانهم فقالوا فيهم نصف ما يقولوه في غيرهم لضُرِبَتْ أعناقهم بالسيف في رائعة النهار! كان أحدُهُم قد كتبَ مقالاً أخذ يعدِّدُ فيه المآثر الأموية، وأسقط عن "يزيد بن معاوية" كلَّ ما نُسِبَ إليه من الجرائم كقتل الإمام الحسين، وضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق، واستباحة مدينة رسول الله، وسفك دماء 700 من حفظة القرآن الكريم في يومٍ واحد بهدف إخماد الثورة ضده. وسوف أختصرُ مؤاخذاتي وملاحظاتي على ما كُتِبَ في هذا الباب وما يُكتَب، والذي يكاد يكون منقولاً من آخرين أرَّخُوا لهذه الفترة بنفس المنهجية المتعسفة، كالدكتور علي الصَّلّابي الليبي، والدكتور راغب السرجاني المصري، وأجمِلُها فيما يلي: أولاً: نحنُ أمّة النقد، أمَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لانتهيبُ أن نقولَ للمخطئ أخطأت، بل نأخذُ على يد الظالم؛ لأن الحقَّ والعدلَ والخيرَ أحبُّ إلينا من الأشخاص، وليس لأحدٍ عندنا عصمةٌ بعدَ رسول الله، بل كُلُّ أحدٍ يُؤخَذُ من قولِهِ ويُترك، وصدق من قال: "لا يُعرفُ الحقُّ بالرجال". ثانياً: قد ترضَّى القرآنُ الكريم عن أصحابِ بيعةِ الرضوان في آيات سورة الفتح (قال الحافظ ابن حجر العسقلاني إنهم نحو 1500 صحابي) ثمَّ ترضَّى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم (بإحسان) في آية سورة التوبة رقم 100، وأما من عدا هؤلاء من الصحابة الأجلاء فلا دليل شرعي على عدالتهم (بمعناها الأخلاقي وليس بالمعنى الاصطلاحي الإخباري عند المحدثين) ومن حق التاريخ أن يحاسبهم، وصدق من قال: (من وَعَى التاريخَ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره). ثالثاً: بعد أن قُتِلَ الخليفةُ الراشد عثمان بن عفان غيلةً وغدراً بويع لعليٍ بن أبي طالب، لكنَّ الأمويين امتنعوا عن مبايعته وطالبوا بالثأر من قتلة عثمان ثم وضعوا قميصَهُ على منبر المسجد الجامع في دمشق عاماً كاملاً، ومن المعلوم أن معاوية بن أبي سفيان كان قائد جيش الفئة الباغية بنص الحديث الشريف الذي ذكَّرَهُ به عمرو بن العاص بعد قتل عمار بن ياسر: (وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) ولكنَّه لم يتراجع بل قال لعمرو: (ويحك! إنما قتله عليٌّ وأصحابُه)! هذا والأعجبُ أنه لم يأخذ بثأر عثمان حتى وبعد أن استقر له الملك! رابعاً: وقعت الفتنةُ الكبرى واصطدمت جيوش المسلمين، وسالت دماؤهم ثمَّ قُتِل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب غيلةً وغدراً على يد أحد الخوارج، فبويع للحسن بن علي وقد اتفق الحسنُ مع معاوية على حقن دماء المسلمين بأن يتولى معاوية الخلافة أولاً ثم تنتقل إلى الحسن بعد موت معاوية، لكنّ الحسن مات قبل معاوية الذي حكم نحو عشرين سنة ثم قام بتوريث الملك لابنه يزيد من بعده (يقال إنّ الحسن قُتِلَ مسموماً والله أعلم). خامساً: ليكن معلوماً أنَّ الحُكمَ الرشيدَ قد انتهى في اليوم الذي تسَلَّم فيه معاوية بن أبي سفيان الخلافة، فتحول أمرُ المسلمين على يديه إلى ملكٍ عضوض بعد أن كان شورى بين المؤمنين، وتم نقل مركز الحكم إلى دمشق معقل بني أمية، وأصبحت الخلافة من حينها رمزاً لوحدة المسلمين السياسية والاقتصادية والثقافية لا أكثر! سادساً: كانت دولةُ بني أمية نموذجاً صارخاً للحكم القيصري الكسروي الاستبدادي (باستثاء عمر بن عبد العزيز) فقد كان اختيارُ الولاة والعمَّال يتمُّ على أساس القرابة والولاء والثقة لا على أساس الكفاءة ، وكانت العطايا من بيت مال المسلمين تُوزَّعُ على المحاسيب وأصحاب الحظوة! ولا شك أنهم أنجزوا إنجازاتٍ مدنية وإنشائية مزدهرة، لكنّ هذا لا يُلغي حقيقة التسلط والقمع الذي مارسوه. سابعاً: اتساعُ الفتوحاتِ الإسلاميةِ في عهد "بني أمية" لا يعكسُ بالضرورة تديّن القائمين على الدولة، بل ربما يعكس رغبتهم في توسيع الملك ورُقعة النفوذ مستفيدين في ذلك من الحماسة الإسلامية المتدفقة لدى من بقي من الصحابة، فضلاً عن التابعين وتابعيهم (القرون الثلاثة الخيرية)، وذلك في نشر الإسلام وفي تخليص سكان العالم من الإمبراطوريات القمعية المتسلطة التي كانت تحمل الناس على دين ملوكها، وتحول بينهم وبين وصول الدعوة إليهم. ثامناً: قد ظلم تاريخَ المسلمين فريقان من الناس؛ الفريقُ الأول اختزله في المؤامرات والمظالم والدماء، حيثُ صوَّرَ قصورَ الخلفاء والحكَّام على أنها ملاهٍ ليلية، والفريقُ الثاني اختزله في الفتوحات والأمجادِ والبطولات وخلع عليه ما يشبه القداسة ليوهم العوام بخلاف حقائقه ووقائعه، وقد وقع الفريقان في معضلة تطويع الأحداث لخدمة الأجندة السياسية أو الحزبية لكلٍّ منهما! تاسعاً: هذا والحق والعدل والإنصاف يقضي بأن يقال إنه تاريخٌ بشري، هو تاريخ المسلمين وليس تاريخ الإسلام! وقد كان الأولى بمن انتصروا لبدعة التوريث الذي يعدُّ انحرافاً خطيراً عن سنة الرسول وخلفائه الأربعة المهديين، ألا يتذرعوا بذريعة (تقديم المفضول على الفاضل) بدعوى الحفاظ على وحدة الأمة وهيبة الدولة! فهذا ونحوه من الأغاليط مما يتذرعُ به المستبدون في كل عصر وفي كل مصر! عاشراً: وقد ضرب علماء أمتنا وأئمتها الأعلام المثل في قول الحق عند سلطان جائر، ولنا في الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ثم سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري ثم أبي حنيفة النعمان وعبد الله بن المبارك وسفيان الثوري ومكحول ثم أحمد بن حنبل وطاووس ومقاتل بن سليمان ثم الهروي وابن الجوزي وعبد القادر الجيلاني وعز الدين بن عبد السلام وابن تيمية والنووي.. لنا فيهم وفي أمثالهم المثل لمَن كان ممتثلاً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :