محمد بنطلحة يؤكد أنه ليس هناك حرب أهلية بين الشعر والرواية

  • 11/17/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يحتل الشاعر محمد بنطلحة مكانة بارزة في الحداثة الشعرية في المغرب، ويحظى بنفس المكانة لدى شعراء المغرب من مختلف الأجيال، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة إكس أن بروفانس بفرنسا، ونال الكثير من الجوائز المرموقة، من أعماله: نشيد البجع، غيمة أو حجر، ليتني أعمى، سدوم، قليلا أكثر، وأخيرا صدرت أعماله الشعرية الشهر الماضي، شارك أخيرا في مهرجان طنطا الشعري واستضافته مؤسسة أروقة للنشر والترجمة والدراسات في ندوة أدارها الشاعر والباحث هاني الصلوي، وتحدث فيها عن الشعر وتجلياته ومشهده المغربي والعربي. أكد بنطلحة أن الصراع بين الشعر والرواية صراع وهمي، وقال: في البدء كان الشعر، ولا أريد أن أقول أن هذا زمن الرواية كما قال د. جابر عصفور، لأن الرواية تستعين بالشعر كسرا لملل الوصف، ولفظة قصيدة، تحمل الـ "قص" والـ "اقتصاد"، بغض النظر عمن يقول إن هذا ليس زمن القصيدة، القصيدة من سبعة أبيات فقط، والآن نكتب النص. و"قصيدة" فيها اشتراط أن تكتب الشعر وليس شيئا آخر، والاقتصاد هو ما أسماه القدامى الإيجاز وما نسميه نحن الآن التكثيف، والـ "قص"، السرد، وهو موجود ضمنيا بحكم الانثربولوجيا في الشعر، هذه الظاهرة تظهر أكثر حين ننتقل من الشعر الغنائي إلى الشعر التقليدي فالتفعيلي وحتى قصيدة النثر، وهذه الأخيرة جاءت بالانفتاح على السرد. وطرح بنطلحة سؤالا إلى أين يسير الشعر؟ وقال "بشكل عام وفي ضوء السياق الحالي، صرنا نقول إن الشعر هو الابن الفقير للعائلة، فالإقبال على القراءات الشعرية حتى في أوروبا قليل جدا، في أوروبا حين يكون عدد الحاضرين بين 20 و25 و30 شخصا تعتبر الأمسية ناجحة، وبطبيعة الحال نعيش عصر السرعة والماديات وشبكة الإنترنت وغيرها أشياء كثيرة تدخلت في تقليص الشعر فضلا عن كونه لم يعد مقروءا". وأضاف "إن الشعر مر بأكثر من مرحلة: الصوتية، الإنشاد، الورقية وأخيرا المرحلة الرقمية؟ ماذا سيكون غدا؟ ما هو المصير؟ نفس الشيء بالنسبة للأشكال، الأشكال كما يقول رولان بارت "لا بد أن يكون هناك شكل كي تكون هناك كتابة"، ولكن كل كتابة لديها أخلاق، وهو ما يسميه بأخلاق الكتابة، هناك أشكال جربها العالم بشكل عام وهناك أشكال جربناها نحن، الشعر التقليدي أو شعر البيت، ثم القصيدة الحرة وقصيدة التفعيلية، ثم قصيدة النثر، والآن هناك حديث عن قصيدة الهايكو، هل هناك سقف للأشكال؟ هناك من شعراء قصيدة النثر من يقول إنها السقف، أي وصلنا إلى السقف، وهذا يعني أننا وصلنا إلى الأفق المغلق، في الشعر لا يمكن أن يكون هناك أفق مغلق على الاطلاق، دائما ما يكون هناك اختراقات ولاسيما داخل النص. وحتى الناقد إذا لم يخترق النص لا يستطيع أن يصل إليه، إذ لا بد أن يضع ثقبا في معمار النص، ومن هذا الثقب يستطيع أن يتسلل إلى داخله ومن ثم يراقبه مرتين مرة من الخارج وأخرى من الداخل، وإذا لم تكن له هذه الرؤية لا يستطيع أن يحيط لا بالبناء ولا بالنص. هذه الأشكال المتعددة هل تتنافر أم تتجاور؟ هل فقد الشعر العمودي مصداقيته وأهليته؟ لا تستطيع أن تحدد ذلك، فالشكل لا يموت، قد يختفي وقد يعود جزئيا أو كليا". وبالنسبة للمغرب أشار إلى أنه بحدود بداية القرن العشرين كان الشعر في المغرب تقليدي، وأوضح "في بداية الفتح كان هناك شعراء عرب يكتبون الشعر في المغرب ولم يكن هناك شعراء مغاربة، ولكن في العصر الموحدي والمرابطي، وخاصة الموحدي أصبح هناك الشاعر الذي يحس أن مهنته هي الشعر وليس شيئا آخر، مثل محمد بن حبوس الذي أصبح يذم الشعر "يا غراب الشعر لا طرت ومليت الوقوعا"، هنا نحس أن هناك تباشير شعرية، هنا ظهر الشاعر لكن بقي الشعر ـ مع ذلك ـ مشدودا إلى الوراء، لأن الشاعر كان فقيها بالأساس، وكان المرجع الإسلامي بكل طقوسه هو المحفز له. مع بداية القرن العشرين اختلف الأمر حين أخذت تأتينا الدوريات والكتب من الشرق ولاسيما من مصر، وعندما أخذ بعض الشعراء يأتون إلى الشرق في طريقهم للحج أو بشكل مباشر، هنا أستطيع القول أننا مررنا بجميع التأثيرات، وأول مجموعة شعرية ظهرت لدينا كانت "أحلام الفجر" عام 1935 لعبدالقادر حسن العاصمي وإذا لاحظتم هي على غرار أحد دواوين أحمد زكي أبوشادي المعنون بـ "أنداء الفجر"، وكان العاصي فقيها أيضا ومن الوطنيين الموقعين على وثيقة الاستقلال، وهو عم الشاعرة مليكة العاصمي وهي من قامت بإعادة نشر ديوانه، كذلك من كتب له المقدمة هو عبدالله إبراهيم، وعلى حدود الفترة التي بدأت أكتب فيها ـ نهاية الستينيات ـ لم يكن عدد الدواوين الشعرية يتجاوز رؤوس الأصابع، الآن الدواوين بلا حصر. وتساءل بنطلحة متى بدأت الانعطافة؟ وقال "يبدو لي أن ما يحدث في قاع المجتمع من حراك يؤثر على مجمل التعبيرات، فعام 1963 عام الانقلاب في المغرب و1965 فرضت لدينا حالة الاستثناء، و1967 حدثت النكسة، و1968 حركة الطلاب في القاهرة، كل هذه الأحداث دون شك خلخلت وعملت على تقليب التربة الشعرية، من هنا بدأت القيم الأولى للحداثة، ولكن بعد أن مررنا بخمسة عقود من التأثيرات المشرقية لمحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وفي منتصف الستينيات ظهرت تأثيرات أخرى لصلاح عبدالصبور ومحمد عفيفي مطر وغيرهم، وهي فترة تأسيس حيث ظهرت عدة أسماء بقي منها ثلاثة غالبا ما يتم تداول أسمائهم، وهم محمد الخمار الكنوني الذي درس بمصر، وأحمد المجاطي ودرس في سوريا، ومحمد السرغيني درس في العراق، هؤلاء المؤسسون درسوا في الشرق وربما هذا ما يبرر التوجه الذي تبناه محمد بنيس حين كتب أطروحته "الصوت والصدى"، إذ اعتبر أن هؤلاء المؤسسين صدى، وهو توجه لم يكن يروق للشعراء المؤسسين، فالكنوني الذي كان أستاذا لبنيس الذي أول ما نشر نشر ما قبل الكلام وفي الصفحة الأولى كتب "إلى صديقي الكبير الذي قال لي اكتب فكتبت إلى محمد الخمار الكنوني"، وفرد الكنوني نفسه قائلا "إذا كنت أنا الصدى فإنه هو صدى الصدى ـ يقصد محمد بنيس ـ نحن لا نقلل من قيمة هؤلاء ولا بد من إعطاء كل ذي شعر حقه. ورأى بنطلحة أنه مع بداية السبعينيات جاءت انتقالة أخرى، لم تكن في المغرب فقط ولكن أيضا في مصر وبلدان أخرى. هنا ظهرت فكرة السؤال والشك وعدم الاطمئنان إلى شكل معين. إن الإشكال الذي يطرح على السبعينيات هو إشكال: أنتم شعراء القضايا الكبرى، وشعراء الالتزام. إن الالتزام فكرة روج لها سهيل إدريس نقلا عن سارتر، علما بأن سارتر لم يقل بالالتزام في الشعر، قال بالالتزام في النثر بصيغة معينة. وأضاف "هناك أكثر من حالة صراع منها صراع الأجيال، فالذين جاءوا بعدنا أرادوا أن يهدموا جيلنا، قالوا هؤلاء ليسوا شعراء، بينما في الحقيقة عشنا فترات دمار في مجتمعاتنا ولم يكن هناك من يدافع عن الإنسان ـ كي لا أقول عن المواطن ـ لم يكن لدينا برلمان أو جرائد، في المغرب كانت جريدة واحدة، فكان شيئا طبيعيا أن يقف الشاعر إلى جانب الوطن والمواطن وأخيه الإنسان حيثما كان، ولكن الرغبة في التغيير لدى هذا الجيل لم تكن رغبة في تغيير المجتمع فقط بل الرغبة في تغيير أساليب التعبير عن المجتمع، ومن ثم كانت أسئلتنا حول اللغة، ما هي اللغة؟ بأي سجل لغوي سنشتغل؟ ما هي الأسئلة الكبرى التي يمكن أن تطرحها اللغة على الشعر؟ هذه كلها أسئلة كان الشاعر في السبعينيات يطرحها. إن ما عشته وعاشه أصدقائي في تلك الفترة حالة عامة واتجاه كان يفرض علينا بدون أن تكون فكرة التغيير في الشعر غائبة، لقد كانت فكرة الحركات القومية وما ترتب عليها فكان ضروريا أن نجد لها الشكل المناسب. ورأى بنطلحة أن الشعر في المغرب كما ينبغي أن يكون في أي من بقاع العالم حركة أفراد وليس حركة جماعات، هنا في مصر كانت حركة إضاءة وحركة أصوات، حركات اشتغلت في إطار خدمة الشعر من زوايا معينة، كانت حركات تكتلات، وبنهاية المطاف ماذا بقي منها؟ ليس الصوت العام الكبير ولكن الصوت الفردي بشكل أو بآخر، نحن نتحدث عن مستوى يضم قواسم مشتركة. بيت الشعر المغربي مثلا ليس حركة جماعية وإنما إطار يحاول أن يدافع عن أوضاع الشعراء أساسا وأن يتيح الظروف المناسبة للكتابة الشعرية. أيضا بشكل عام أشرت إلى أن حركة الالتزام في السبعينيات كانت حركة عامة وليست مغاربية، وبالتالي القضايا التي تشغل الشاعر في مصر هي التي ينبغي أن تشغل الشاعر في المغرب وهي التي شغلت الشاعر في بلدان عربية أخرى. هناك قضايا أساسية، ولكن ما يميز هو البصمة، ينبغي أن تكون هناك شخصية، أن يكون لكل شاعر جملته ورؤياه، هنا حساسية كبيرة بين الشعراء في استخدام المفردات، على الرغم من أن المفردة الواحدة يمكن صياغتها بآلاف الأساليب. ولفت بنطلحة إلى أنه لا توجد أي إشكالية في الكتابة باللهجات كالأمازيغية والفرنسية وغيرها، لأننا نبحث عن الشعر، وفي المغرب هناك تعدد لهجات، لكن ليس هناك سيطرة للهجة على لهجة أخرى، نحن الآن من أجل التعدد، ولا إشكال في هذا التعدد، وإلا سنسقط في نوع من التنميط السياسي أو الأيديولوجي أو العقائدي، نحن في غنى عن ذلك. كما لا أرى أن هناك حربا أهلية بين الرواية والشعر، أو بين الشعر والنثر، في العمق الجامعي ننطلق من المقولة الأساسية لهيدجر "التأسيس باللغة"، "تأسيس الوجود باللغة" أو ما يمكن أن ألخصه في تعريف جيرار بينيت للشعرية "النظرية العامة للأشكال الأدبية". الشعر صناعة، مهنة، والمهنة اتقان وكما نقول ينبغي أن تكون هناك "الغرزة المدفونة" أي إخفاء الكثير من العمليات لإظهار المنتوج. وقال بنطلحة "لدي نظرية خاصة عن الشكل لا يتسع المجال لتوضيحها، لكن يجب أن أدقق ماذا يعني الشكل؟ هناك الشكلانيون الروس، والشكلانيون لا يميزون بين الشكل والمضمون، لا يمكن أن تقول شكلا صافيا ومضمونا ملوثا، الشكل هو مجموع العناصر التي تكون العمل الفني، وهو من يسمح باستمرار العمل الأدبي كيفما كان. إن الأعمال المسرحية والنثرية وغيره لم تنتقل من زمان إلى زمان إلا بواسطة شكلها، القصيدة العمودية القديمة لماذا استمرت لأن شكلها ثابت ويسهل حفظها، وهذا ينقلني للحديث عن "المحو" مثلا، الشاعر الآن لم يعد يملأ الورقة، أصبح يفرغها وهذا واضح، وقد صرح بعض الشعراء الأوائل من شعراء الشعر الذي أسمته نازك الملائكة خطأ بالشعر الحر، بأن "الشعر العمود يجعلنا نحشو"، الشاعر الآن يركز على الجوهر، ومن هنا فإننا نخطئ عند اعتبارنا بعض المساحات والفراغات البيضاء هي عجز من الشاعر، الشاعر لا يلعب على كمية الفضاءات والفراغات ولكن على الطريقة الموزع بها وهذا ما فعله مالارميه في "رمية النرد لا تلغي الحظوة". هنا حديث طويل. إن تطور الأشكال يتم بنفس الإيقاع لدى جميع الشعوب، فقط يختلف السياق فتختلف المرحلة التي يصل بها هذا الشاعر أو ذاك. وشدد بنطلحة على ضرورة أن يكون للقصيدة استقلاليتها وشخصيتها وأن يكون هناك هامش يحيط بها ويعزلها عن باقي العالم، هذه فكرة ماكس جاكوب، وهذا ما لا ينتبه له الكثيرون الذين يركزون فقط على سوزان برنارد وينسون ماكس جاكوب الذي ترجمت مقدمته في كتاب "جام النرد" حيث يتحدث عن بعض المواصفات التي يراها أساسية بالنسبة للتموضع والموضعة، أيضا لا ننتبه إلى وجهات نظر أخرى مثلا قصيدة النثر عند آلان بول ترتكز لديه على وحدة الانطباع وكلية التأثير، وأيضا العمل الجميل الذي قام به والت ويتمان، طوال حياته لم يكتب سوى كتاب واحد "أوراق العشب" طبع طبعات متعددة، كل ما كان يفعله ويتمان هو أن ينقح ويزيد ويمحو، ودائما عمل شائك كما يقول مالارميه "ليس أن يضيف ويملأ..لا، بل أن يحذف"، بالنسبة لمالارميه "النص أفعي" كي نأمنها ونسيطر عليها يجب أن نحذف الرأس والذيل، وهذا منطقي، الشاعر يبدأ الكتابة متصورا أن هذه البداية طبيعية لكنه قد يكون في مرحلة ما قبل الكتابة، ويحس أن نفسه الشعري لم ينته فيقول كلاما كثيرا، بعد ذلك عليه أن ينتبه وأن يحذف. وحول تجربته قال بنطلحة إن أول قصيدة نشرتها كانت عام 1970 جاءت في اطار المرحلة عنوانها "دمعة أخيرة"، أبدأ من الآخر، وهكذا أنا دائما أبدأ من الآخر، فكان أول ديوان لي "نشيد البجعة" بنهاية 1989، لأكون آخر الشعراء من جيلي في نشر الديوان الأول، ما معنى البجع، البجع مشهور بالصوت الرائق الجميل، والبجع عندما يحس أن نهايته اقتربت يغني ويكون غناءه جميلا، فالشاعر يقهر الموت بالغناء تماما مثلما استطاع أورفيوس أن يسترد حبيبته من العالم السفلي ولم يكن يمكنه النزول إلى هذا العالم إلا بالغناء الذي شغل كلب الحراسة. وختم بنطلحة ندوته بأن الشعر المغربي مرّ بتجارب متعددة كان في البداية متأثرا بالبعد الديني ثم شيئا فشيئا بدأ يتحرر ولحد الساعة، لكن مشهده كأغلب المشاهد الشعرية العربية لا تزال تلقى فيه القصائد بالعقلية القديمة، أي عقلية الفقيه وليس الشاعر، هناك إذن من يراهن على الماضي وما هو ثابت ومن يراهن على ما هو متحرك ومن يراهن على السؤال أو على الأقل من ينطلق من الشك لا اليقين وهو ما يصنع الشعر، الشعر هو بحث عن الكينونة، هو التأسيس للوجود بواسطة اللغة.   محمد الحمامصي

مشاركة :