بغداد - الأسبوع الماضي اقتحمت قوات الجيش العراقي بلدة راوة آخر معاقل الدولة الإسلامية في العراق، ولكن العراقيون يتساءلون هل سيتخلصون أخيراً من الإرهاب بعد عقد من الزمن؟ أم أن للمتطرفين سلوكا آخر لمواصلة العنف؟ الأسبوع الماضي وبينما كانت قوات الأمن العراقية تطارد مقاتلي التنظيم في صحراء الأنبار باتجاه الحدود السورية بعد خسارة الإرهابيين مدنهم الأساسية في الموصل وتلعفر والحويجة، شن المتطرفون هجمات انتحارية استهدفت أحد مقرات "الحشد الشعبي" في مدينة كركوك وبعد يوم على الهجوم أعلنت قوات الأمن في المدينة اعتقال شبكة إرهابية داخل المدينة كانت تسعى لتنفيذ هجمات جديدة. في بغداد أعلنت قيادة الجيش السبت الماضي اعتقال خلية إرهابية كانت تخطط لاستهداف الزوار الشيعة المتوجهين إلى مدينة كربلاء التي كانت تشهد مناسبة دينية خاصة للشيعة، وقال قائد "عمليات بغداد" الفريق جليل الربيعي أن الخلية جاءت من مدينة الموصل وكانت تنوي استهداف منطقة الكرادة في قلب العاصمة. وبعد أيام قليلة من إعلان الحكومة العراقية استعادة السيطرة على أهم معاقل الدولة الإسلامية في مدينتي الموصل وتلعفر شمال البلاد في آب (أغسطس) الماضي، تمكن إرهابيون من تنفيذ هجوم دامٍ عند أطراف محافظة ذي قار جنوب البلاد أوقع (74) قتيلا و (93) جريحا استهدف مطعمين ونقطة تفتيش يمر خلالها المسافرون بين مدن الجنوب للاستراحة. وتشير هذه الهجمات بوضوح إلى أن التنظيم اختار مبكرا إستراتيجيته المقبلة بعد خسارته الحكم في البلدات العراقية، وسيعود إلى تكتيك القتل والاغتيالات عبر التفجيرات لخلق الفوضى من جديد وانتظار أزمات السياسة ليعود مجددا إلى إستراتيجية احتلال المدن. المنهج الذي بدأه أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم "القاعدة" في العراق العام 2004 عبر القتل العشوائي واستهداف تجمعات السكان في مراكز المدن دون السيطرة عليها مع تصاعد حدة الخلافات بين السياسيين الشيعة والسنة هو الذي مهد الطريق بعد عشر سنوات لتنظيم الدولة الإسلامية الذي ولد من رحم "القاعدة" لاحتلال المدن بسهولة في 2014، إذ أن للإرهابيين صبراً طويلا في التخطيط، كما أن الأفكار المتطرفة تعتاش على الأزمات والخلافات السياسية والمجتمعية. اليوم وبعد ثلاث سنوات من المعارك باهظة الثمن وما خلفته من دمار وتضحيات كبيرة تمكن العراقيون من استعادة السيطرة على ثلث مساحة البلاد التي كانت تحت قبضة التنظيم في الانبار ونينوى وصلاح الدين، وتطارد قوات الأمن العراقية المتطرفين منذ الأسبوع الماضي إلى الحدود الدولية مع سورية في مؤشر إلى تطور ملحوظ للقوة العسكرية العراقية. ولكن القضاء على المتطرفين عسكريا لا يعني الانتصار عليهم، فالتنظيمات الإرهابية نجحت في جعل العراق متوترا طيلة العقد الماضي ومن دون أن يحتل مدينة واحدة عبر إستراتيجية التفجيرات والاغتيالات، وينتظرون استغلال خلافات السياسيين وقرارات حكومية تثير استياء السكان. جيوش الخلايا النائمة عندما سقطت الموصل رسميا بيد الدولة الإسلامية في حزيران (يونيو) 2014 بعد انهيار ثلاث فرق عسكرية هناك (45) ألف عسكري تؤكد المعلومات على أن عدد الإرهابيين الذين هاجموا المدينة لم يتعد عددهم العشرات وهو ما أكده رئيس الوزراء حيدر العبادي الشهر الماضي عندما أعلن عن نيته فتح تحقيق في أسباب انهيار الجيش حينذاك. ولكن في الواقع إن الموصل سقطت عمليا بيد الإرهابيين قبل ذلك التاريخ بأشهر بفضل الخلايا النائمة التي زرعوها في المدينة وكانت تقوم بمهام جباية الأموال من التجار والأهالي مقابل الحفاظ على حياتهم، وهذه الخلايا ساعدتهم في السيطرة على المدينة بسهولة، والشيء نفسه حصل في الانبار وصلاح الدين. وإذا كان التنظيم نجح في تجنيد المئات من السكان إلى جانبه قبل أن يسيطر على مدن كاملة مأهولة بالسكان، إذن كيف الحال وقد احتل ثلاث بلدات رئيسية يقطنها 7 ملايين شخص، ووفقا لإحصاءات المنظمة الدولية للهجرة فان عدد السكان الذين نزحوا في حينها كان ثلاثة ملايين شخص، هذا يعني أن أربعة ملايين شخص عاشوا تحت ظل دولة الخلافة لثلاثة أعوام. ويقول النقيب في الجيش العراقي عبد الكريم اللامي "عندما كنا نقاتل بين الأحياء السكنية في الموصل وتمر من خلالنا آلاف العائلات الهاربة من المعارك، كنا نعرف جيدا أن بينهم أعضاء في داعش، ولكننا لا نستطيع اعتقال الجميع والتحقيق معهم، نعرف جيدا أن إدارة مدن كبيرة مثل الموصل والانبار كانت تحتاج إلى آلاف من السكان المحليين استعان بهم داعش لهذا الغرض". ويضيف اللامي "إنها مشكلة حقيقية، فدوائر الاستخبارات والمخابرات تواصل التحقيق واعتقال المئات من عناصر داعش، ولكن هناك المزيد الذين نجحوا في الاختباء، كما أن آلافاً من العائلات التي انتمى احد أفرادها إلى المتطرفين هم موضع شك، بالتأكيد يجب طمأنة هذه العائلات وعدم اعتبارهم إرهابيين، وإلا فإنها ستتحول إلى خلايا نائمة إذا تعرضوا لمعاملة سيئة". بعد استعادة السيطرة على مدينة الموصل، قررت الحكومة العراقية عزل عائلات تنظيم الدولة الإسلامية في مخيمات معزولة، والشيء نفسه حصل في صلاح الدين والانبار، فيما تعرض آخرون لهدم منازلهم ومنعهم من العودة وحتى الاغتيال، وفقا للخبير في شؤون الجماعات الجهادية هشام الهاشمي. ويقول الهاشمي إن "ابرز التحديات التي واجهت الحكومة بعد التحرير هي التعامل بمهنية مع عائلات عناصر داعش، اختارت الحكومة عزلهم في معسكرات لا إنسانية وسكتت عن عقوبات ثأرية تعرضوا لها مثل هدم منازلهم والاغتيال ومنعهم من العودة إلى منازلهم حتى أصبحت تسيء إلى سمعة الحكومة". الهاشمي يضيف إن "المشكلة تكمن في أن عدد عائلات داعش يقترب من مئة ألف شخص وقد يتحول الكثير منهم إلى جيل جديد من المتطرفين، وقد يكون القادم أكثر سوءا من السابق". وليس خافيا أن المدن التي حررتها قوات الأمن العراقية منذ أشهر تعاني اليوم من أزمات أمنية وإدارية عديدة، وتشير إلى عدم امتلاك الحكومة العراقية خطة محكمة لإعادة النظام، فالسلطة الأمنية بيد تشكيلات مسلحة غير متجانسة بعيدة عن رقابة الحكومة في بغداد، والسكان يعانون من مشكلات خدمية. معركة استخبارات ومعلومات المعركة المقبلة ضد المتطرفين ستكون معركة استخبارية تعتمد على المعلومات وليس على الجنود والدبابات، وفقا لعضو اللجنة الأمنية في البرلمان العراقي النائب اسكندر وتوت. ويقول وتوت إن "المعركة ضد الإرهابيين ستستمر ولكن يجب تغيير الخطط الأمنية، فالمتطرفون لم يعودوا قادرين على القتال وفق مبدأ الحروب النظامية، وقد يلجأ التنظيم إلى الاختباء وشن هجمات انتحارية وعمليات اغتيال". ويضيف "نحتاج خلال الأشهر المقبلة إلى تعزيز العمل الاستخباراتي والتنسيق مع الدول المجاورة لمنع تكرار الهجمات الإرهابية على مدننا، نحتاج إلى معلومات عن الخلايا النائمة وأماكن تواجدها خصوصا وان معلومات مؤكدة تشير إلى هروب مقاتلي داعش إلى الصحراء الشاسعة في بين الانبار وصلاح الدين والموصل والتي تعرف باسم صحراء الجزيرة". قبل العام 2014 كان المتطرفون يلجؤون إلى التفجيرات لإيقاع اكبر عدد من الضحايا، وهذه التفجيرات تثير الخلافات بين السياسيين عبر تبادل الاتهامات فيما بينهم وتنعكس أيضاً على السكان عبر تبادل الاتهامات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما أفسح المجال للتنظيم لاستغلال الفوضى السياسية والانقضاض على الموصل والانتقال إلى مرحلة السيطرة على المدن بشكل كامل. ومنذ أسابيع يشهد العراق أزمة سياسية هي الأشد، وهذه المرة بين العرب والكرد وليس بين السنة والشيعة، فالاستفتاء على انفصال إقليم كردستان وما تبعه من تحرك قوات الجيش الاتحادي للسيطرة على كركوك والمناطق المتنازع عليها بين الكرد والعرب والتركمان في صلاح الدين وديالى ونينوى يمثل أول التحديات التي تواجه البلاد بعد مرحلة القضاء على الدولة الإسلامية. ويحاول الإرهابيون استغلال هذه الخلافات، وشنوا فعلا هجمات انتحارية في مدينة كركوك، وعلى السياسيين العراقيين تدارك الأمور قبل فوات الأوان، وعلى الحكومة العراقية اتخاذ إجراءات حاسمة لطمأنة السكان ودعم المحافظات التي خرجت لتوها من حكم الإرهابيين، كما تقول النائب عن الموصل نورة البجاري. البجاري تقول إن "الإقصاء والتهميش وتجاهل مطالب السكان في توفير فرص عمل وإعمار مدنهم ومنازلهم يخلق التذمر على السلطات، وعلى الحكومة وضع خطة جدية لإعمار المحافظات المدمرة، وإلا فان المتطرفين سيسعون إلى استغلال حالة التذمر وتجنيد المؤيدين إلى جانبهم".(نقاش)
مشاركة :