جدليات العقل العربي 6 «غياب الخطاب العلماني العربي»

  • 11/18/2017
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

«ما لله لله.. وما لقيصر لقيصر» تحول أي مجتمع ديني إلى مجتمع علماني يتطلب أموراً عدة ذات أولويات وأوليات بنائية ورئيسة، من أهمها «صناعة الخطاب العلماني»، وإن لم يكن أولها. «إن الإيمان هو الذي يصنع الثبات»، وهذه العبارة أجدها أفضل مؤشر لأسباب زعزعة العلمانية العربية تلك الزعزعة التي منعت من صناعة خطاب علماني عربي ناضج، لأن الرواد الأوائل للعلمانية العربية ظنوا أن «الممارسات العلمانية» بالتكرار والتقادم قد «تصنع خطابًا علمانيًا»، وهذا غير صحيح أو هكذا أعتقد، كما أن العقيدة العلمانية لم تكن عقيدة أصلياً عند أولئك الرواد. لقد كان هدف الرواد الأوائل من العلمانيين العرب في نقلهم للتجربة العلمانية ذاتياً وليس جماعياً، وهو هدف كان مقصده التمرد على سلطة الديني التي كانت تتحكم في الحريات الشخصية للأفراد والمجتمعات، وهذا ما يُفسر لنا غياب أي محاولة لصناعة أوليات خطاب علماني عربي منذ بدء حركة العلمانية العربية، أوليات تُرهّص لانتقال المجتمعات العربية من الديني إلى العلماني. ولذا ظلت العلمانية حقبة من الزمن مجرد ممارسات فردية تتوسع أو تتقلص لا تحمل مضموناً جدّياً يُمكن تحوّله إلى خطاب ذي خلفية نهضوية تجذب المجتمعات العربية نحو الانتقال إلى المنهج العلماني النهضوي دون توجس لضياع خصوصية الهوية. ويمكن تقسيم تاريخ العلمانية وفق النقطة السابقة إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى، مرحلة الثقافة الذهنية. فالعلمانية العربية بدأت كتوجه أدبي عند العرب وليس كتوجه فكري كما كان في الغرب، وأظن أن سبب هذا التوجه يعود إلى «سهولة الإجرائية» التي اعتمدت على «تقليد العلمانية الغربية» وانعدام الذاكرة التأصيلية، وهو ما أضرّ فيما بعد بالعلمانية العربية وشوه قيمها، إذ ظلت في الذهنية القائمة صورة منسوخة من الغرب. وتبلور مفهوم العلمانية في الذهنية الشعبية العربية كما روّج لها النص الأدبي والسينما العربية اعتمد على ثلاث نقاط في فهم العلمانية هي: إنها معادل للغرب، معادل للحرية الشخصية خارج أي شرطية دينية أو أخلاقية، البديل الأيديولوجي القادم للديني. وبذلك تحولت العلمانية إلى ثقافة ذهنية قبل تحوّلها إلى خطاب ثقافي أو فكري، وهو ما أضر بلا شك بالقيم الحقيقية والنهضوية للعلمانية واختزلها في البعد الشكلي، هذا البعد الذي أصبح فيما بعد حجة لمقاومة العلمانية في المجتمعات العربية. أما المرحلة الثانية من تاريخ العلمانية في المجتمعات العربية، فهي مرحلة اعتمدت على تمدد العلمانية من النص الأدبي إلى النص الثقافي والفكري. وأول معضلة واجهت هذا التمدد هي الاضطراب الدلالي لمصطلح العلمانية، وتشابكه بتوجسات دينية؛ كوّنتها المرحلة الأولى لتاريخ العلمانية العربية أو ما أسمية «علمانية الأفراد». أما فيما يتعلق بالحامل الثقافي لمصطلح العلمانية فيُمكن تقسيمه إلى قسمين، القسم الأول وهو الذي لم يهتم «بتقنية المصطلح» وهذا الفريق هو الذي دخل في اصطدام حاد مع حراس الخطاب الديني. وهو بذلك تعمد نقل التجربة العلمانية الغربية كما هي دون مراعاة الخصوصية الدينية للمجتمعات العربية، ودون أن يُدرك أن نجاح العلمانية الغربية لم يتحقق إلا في ضوء سقوط سلطة الديني في الغرب. إذن نحن هنا أمام تجربتين مختلفتين لا يمكن أن نشملهما بتعميم إجرائي واحد. أما القسم الآخر فهم رواد المرحلة الثانية من العلمانيين العرب، وهذا القسم أدرك أهمية فهم واحترام الخصوصية الدينية للمجتمعات العربية ولذا وجه اهتمامه إلى «تنقية مصطلح العلمانية» من الجذور الرئيسة لأسباب نشأته، من جانب وإلى تنظيفه من شوائب تضر الخصوصية الدينية العربية أو تفتح نوافذ لأي توجسات تحتك بجذور تلك الخصوصية من جانب آخر. وهذه الإجرائية للتنقية كانت تعني بالنسبة للحامل الثقافي «إعادة تدوير مصطلح العلمانية» لتتناسب مع قيم خصوصية المجتمع العربي؛ حتى توفر الطمأنينة الدينية للعقل الجمعي العربي نحو العلمانية وأنها مجرد إجراءات نهضوية تُفيد ولا تضرّ. إلا أن هذا الاتجاه الإجرائي للعلمانيين العرب في نسختهم الثانية لم يحقق جدوى لسببين هما: الأول: غياب الضامن السياسي الذي يوفر للعلمانية الغطاء الرسمي لتحولها إلى إجراءات نهضوية، وهذا الغياب سببه الرئيس عدم رغبة صانع القرار السياسي في الدخول في صراع مع الخطاب الديني كونه خطاباً جماهيرياً لا يرغب أي نظام سياسي في استفزازه. والآخر: عدم اتفاق جمهور العلمانيين العرب على مصطلح موحد للعلمانية بصيغة عربية يُرضي عقلية المتلقي العربي ومجتمعه كتوجه نهضوي آمن يضمن له مواكبة الحضارة المتنامية، وقبل ذلك يحظى برضا السلطة الدينية. وعدم الاتفاق هذا أدخل المصطلح في جدل مستمر حتى اليوم بفضل تغذية رجال الدين له واستغلالهم لحواشي نشأته التاريخية في الغرب، حتى يظل شبح التوجس من العلمانية في الذهنية العربية قائماً ومستمراً. ورغم أصوات بعض الدينيين المعتدلين الذين أيدوا العلمانية ورأوا أنها منهاج نهضوي يقوم على تقدير العلم وقيمته واستثمار نتائجه في تطوير حياة الإنسان في جوانبها المختلفة لا يتقاطع مع أصول الدين، إلا أن تلك الأصوات لم تؤثر في الذهنية العربية لضعف تأثير من يروجها على العقلية الاجتماعية. والاضطراب الدلالي لمصطلح العلمانية هو الذي أنشأ الصراع بين الديني والعلماني، وهو صراع كان سببه بالنسبة للديني «الخطيئة الدينية». وهنا دخل الصراع في فخ «ثنائية الكفر والإيمان» وتحولت العلمانية في كثير من المجتمعات العربية وخاصة القبلية إلى «معادل للكفر»، وأصبح العلماني في أدنى التقديرات «إنساناً مشكوكاً في عقيدته» وفي أعلى التقديرات «كافراً». وذلك التصنيف أسس منظومة من «المؤشرات» الذي تم اعتبارها توثيقاً توصيفياً «للكائن العلماني». ودخول العلمانيين العرب في صراع مستمر مع السلطة الدينية أشغلهم عن صناعة خطاب علماني عربي، إضافة إلى ذلك الانشغال سنجد أن العلمانيين العرب انقسموا في هذا المجال إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول ويمكن تصنيفه إلى فئتين؛ الفئة الأولى تلك التي استفردت بتجربتها الخاصة وتوثيقها وفق مرئياتها، والحقيقة أن هذا التوثيق لا يُمكن الوثوق به في تأريخ التجربة العلمانية لأنها ذات رؤية أحادية، مثلما نجد عند المسيري والكوني وتركي الحمد وحامد أبو زيد. والفئة الثانية هي الفئة التي شخّصت واقع التجربة العلمانية العربية من خلال تحليل اجتماعي لطرفي التجربة، وهذا التشخيص يمكن اعتماده كمساندة تاريخية لتأريخ مسار الحركة العلمانية العربية ومراجعاتها الفكرية، مثل إبراهيم التركي ومالك بن نبي. والقسم الثاني الذي اهتم بتنظير التجربة المتوقعة لعلمانية عربية متاحة للتطبيق ،كما عند علي حرب يوسف زيدان، وهذا القسم وإن امتلك الإجرائية فلا يُمكن الحكم بنجاح تجربته التنظيرية لأنها خارج منافسة الممارسة من جانب، وتلك التنظيرية لا تخلو من استفزاز لخصوصية هوية المتلقي العربي من جانب آخر؛ لذا ظل هذا الاتجاه من التنظير العلماني نخبوياً جدلياً. القسم الثالث لا يمكن اعتباره بصورة مباشرة من العلمانيين العرب لكنهم قدموا أبحاثاً ذات جدوى مساندة للتجربة العلمانية العربية في مجال المعرفة مثل سعد البازعي، عبدالله العروي. هذا التشتت للعلمانيين العرب، واستفراد كل واحد بتجربته دون وضع الاعتبار أو إقامته لخصائص التراكمية والتكاملية، وضبابية المضمون المعرفي للعلمانية وتقاطعه حيناً أمام المتلقي العربي مع تغذية راجعة مناهضة للعلمانية من قِبل الخطاب الديني. كل تلك الأمور أعاقت العلمانيين العرب عن تحويل الأفكار العلمانية إلى خطاب ناضج يؤسس لأيديولوجية نهضوية اعتبارية تقود تطوّر المجتمع وحضارته، ليخسر العلمانيون العرب «المسألة العلمانية» أمام الدينيين وخطاب الرجعية.

مشاركة :