مجدد الدعوة السلفية. الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1115-1206هـ) (1703-1791م) حرص الشيخ محمد بن عبد الوهاب على طلب العلم في بداية عمره, فعزم على السفر للقاء بالأشياخ والعلماء في الحواضر العلمية من الجزيرة العربية وما حولها, والاستفادة منهم. وكانت الأحساء من ضمن هذه المناطق التي مرَّ بها وجلس عند بعض علمائها ونهل من علومهم, وكان عمره آنذاك (26) سنة تقريباً, وهو العمر الذي يكون فيه الطالب في أوج نشاطه العلمي, وتدفقه العقلي. وإذا عرفنا أنَّ إقامة الشيخ في العراق كانت حوالي ثلاث سنين ما بين (1136-1140هـ), كما نصَّ على ذلك اللواء محمود شيت خطاب في ورقته (الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة الموصل), فإنَّ مروره بالأحساء كان بعد العراق. إلاَّ أنَّ تفاصيل إقامته في الأحساء قد تخفى علينا بعض الشيء, ونحتاج إلى الاطلاع على بعض الوثائق والأوراق التي تحوي نصوصاً تاريخية تفيدنا في ذلك, كما أنَّ ثمة أسئلة مهمة يجدر بنا الحديث عنها: 1ـ كم كانت مدة إقامته في الأحساء؟ 2ـ من أبرز المشايخ الذين التقى بهم ودَرَس عليهم؟ وما هي أبرز الكتب أو العلوم التي درسها؟ 3ـ ماهي أبرز المواقف والأخبار التي جرت له أثناء إقامته في الأحساء؟ وسأحاول في هذه المقالة بذل الوسع في تحليل النصوص التاريخية التي وصلتنا من أجل الإجابة على هذه الأسئلة قدر الإمكان. مدة إقامته في الأحساء: أمَّا مدة إقامته في الأحساء فلا أظن أنها تقل عن شهر فما أكثر وذلك لأمرين: الأول: صعوبة وسائل النقل في تلك الفترة, إذ من الصعب أن يصل الإنسان إلى بلدة على ظهر الجمال بعد تعب ومشقة ثم يغادرها بسرعة بعد فترة وجيزة. الآخر: أنَّ المقصد المهم من زيارته للأحساء هو طلب العلم, وهذا أمر يحتاج إلى فترة ليست بالقصيرة من أجل قراءة الكتاب على الشيخ, ومدارسته للعلم, خاصة إذا كانت المدارسة في علوم تحتاج إلى شرح وتفهيم كعلوم الآلة كالنحو والصرف والبلاغة والفرائض ونحو ذلك. أبرز المشايخ الذين التقى بهم وقرأ عليهم: 1ـ الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي (ت:1181هـ): وهو من علماء الأحساء في وقته وقاضيها, اشتهر باهتمامه بعلم الحديث, ويُلقب بالشافعي الصغير. وقد ذكر الشيخ حسين بن غنام الأحسائي -الذي يعتبر من أخص تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب- في كتابه روضة الأفكار والأفهام (ص:73) أنَّ شيخه نزل في الأحساء على الشيخ العالم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي. وهذا يعني أنَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد سكن في ضيافة الشيخ العبد اللطيف في بيته في محلة الكوت, وكان الشيخ محمد يُحب شيخه ويُجلُّه, جاء ذلك في رسالة بعثها إليه فقال (روضة الأفكار والأفهام, ص:209): “..فإني أُحبك, وقد دعوت لك في صلاتي..”. وقال أيضاً: “..نشر الله لك من الذكر الجميل, وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة مالم يُؤته كثيراً من الناس..لِمَا أعلم منك من محبة الله ورسوله, وحسن الفهم, واتباع الحق..اجتمعت بك من نحو عشرين سنة, وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث, وأخرجت لي كراريس من البخاري كتبتها ونقلت على هوامشها من الشروح, وقلت في مسألة الإيمان-التي ذكر البخاري في أول الصحيح-: هذا هو الحق الذي أدين الله به, فأعجبني هذا الكلام..وذاكرتني أيضاً في بعض المسائل فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما منَّ الله به عليك من حُسن الفهم, ومحبة الله والدار الآخرة”. ويتضح لنا من خلال هذا النص أنَّ الشيخ محمد قد قرأ على شيخه علوماً في التفسير والحديث خاصة صحيح البخاري. وقد علمت من أحد الباحثين أنَّ هناك وقفية لأحد حكام بني خالد لكتاب شرح القسطلاني على صحيح البخاري, يُقال: أنها النسخة التي قرأها الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الشيخ عبد الله بن عبد الطيف. قال حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن (الدرر السنية,12/7-8): “وحضر مشائخ الأحساء، ومن أعظمهم: عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري، ويبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان، وبين أنَّ الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه، من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر؛ وهذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء، وغيرهم من أهل نجد”. 2ـ الشيخ عبد الله بن محمد بن فيروز الحنبلي (ت:1175هـ): وهو من كبار علماء الأحساء في وقته, ومن أشهر فقهائها في مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وقد زاره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيته في المبرز, وبالتحديد في حي (مشرفة) الذي يُحدده بعض المهتمين في الأماكن التاريخية بأنه قريب من عين الحارة, وقد وقفت على بعض الوثائق التاريخية التي تثبت أوقاف مساجدهم هناك نحو مسجد مشرفة. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن (الدرر السنية 12/7-8): “ثم إنَّ شيخنا رحمه الله تعالى، بعد رحلته إلى البصرة، وتحصيل ما حصل بنجد وهناك، رحل إلى الأحساء، وفيها فحول العلماء، منهم عبد الله بن فيروز، أبو محمد الكفيف، ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد”. ويُستفاد من هذا النص أنَّ الشيخ ابن فيروز من فحول العلماء, ولديه مكتبة حافلة بالكتب العلمية, سرَّ بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب حينما رآها وتأملها وعرف مكوناتها لا سيما الكتب الخاصة بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم, ولذلك نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف يطلب منه الرجوع إلى كتاب أعلام الموقعين لابن القيم الموجود في مكتبة ابن فيروز في مشرفة. روضة الأفكار (ص:213), ولا أنس أنَّ أنوه إلى أنَّ ثمة مصاهرة بين الشيخ عبد الله بن فيروز والشيخ محمد بن عبد الوهاب, فالأول زوج عمة الثاني. ونُقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه لم يجد أحداً على مذهب الإمام أحمد في هذه الأماكن، إلا عبد الله بن فيروز في الأحساء”. الدرر السنية (12/328) وهذا الأمر بناءً على ما وجده الشيخ محمد بن عبد الوهاب أثناء زيارته, وإلا هناك علماء وأسر علمية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في تلك الفترة وفي المبرز خاصة كآل مجلي, وآل سُميكة ومنهم الشيخ موسى الذي يُعتبر من أخص تلاميذ الشيخ عبد الله بن فيروز حتى قال عنه الشيخ عثمان بن سند في أصفى الموارد (ص:99): “وهو كآبائه من السادة الحنابلة”. وبعد هذا النبش التاريخي الذي حاولت من خلاله أن أكشف بعض المحطات المهمة التي عاصرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأحساء, كما تمنيت أن أعثر له على مواقف وحكايات أثناء إقامته إلاَّ أنَّ المصادر التي بين يدي لم تكن مسعفة ولا راوية.
مشاركة :