محمد خليفةيعتقد بعض فلاسفة التاريخ أن الغرب قد نجح في تخطي عقبة «الدوران التاريخي»، حيث إن التاريخانية هي فلسفة النظر إلى عمق الظواهر التاريخية ورؤية مدى ضعفها وقوتها في سياقها التاريخي الزمني، وما يرتبط بذلك كله من تأكيدات بأن ظواهر الماضي يجب أن يُنظر إليها وتحليلها في حدود الماضي فقط، وضمن مناخه وأجوائه، وليس على ضوء الحاضر ومقاييسه. إن الظواهر المعاصرة الغربية تشكل أنساقاً متماسكة يسيطر عليها طابع أو نزعة مؤدلجة معينة، كما يرى الفيلسوف شبنغلر أن الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة وتنفصل عن الروح الأولية للطفولة الإنسانية، وكما ينبثق المحدود من اللامحدود. ويرى أن الحضارة تولد وتنمو في تربة يمكن تحديدها تحديداً دقيقاً، وأنها ككل كائن عضوي لها طفولتها وشبابها ونضجها وشيخوختها. وعندما تتحقق الحضارة، وتصل ذروتها، تنضب عصارة الحياة فيها فتتخشب وتتحول إلى مدنية، ثم تتجاوز المدنية إلى الانحلال والفناء. فلكل حضارة صيرورة واتجاه وزمان ومصير، كما هو حال أوروبا عندما ظهرت مملكة البرتغال عام 1139 للميلاد، التي راحت تتوسع على حساب المناطق الإسلامية المجاورة على مدى أكثر من قرنين من الزمان، حتى سيطرت على مناطق واسعة من شبه الجزيرة الإيبيرية. وقد كانت أمم أوروبا المجاورة، خاصة إسبانيا، تسمع عن إنجازات البرتغاليين، فقررت هي الأخرى الدخول إلى الميدان الاستعماري، فكانت إسبانيا أولى المندفعين إلى هذا المجال، فاستعمرت أجزاء واسعة من قارة أمريكا، وتبعتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا. والإنجليز هم أذكى وأشجع شعوب الغرب، لأنهم نجحوا في تكسير أجنحة الدول المنافسة والقوية، وساروا بانتصاراتهم حتى أصبحوا القوة العظمى الوحيدة في العالم في منتصف القرن التاسع عشر، لكن زيادة التنافس بين أمم الغرب، وخصوصاً بعد توحيد ألمانيا عام 1871، فألمانيا الموحدة بما لها من إرث حضاري، وقدرات بشرية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية، فضلاً عن موقعها الجغرافي في القلب الأوروبي، لذلك فإن تزايد قوتها يتسبب في الإخلال الخطير بالتوازن الدولي مما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى بين تلك الأمم ما أدى إلى تحطيم قوتها. وكانت آثار تلك الحرب سلسلة من الحماقات والإخفاقات، وعلى رأسها، معاهدة فرساي، وعدم كفاءة عصبة الأمم، والكساد الكبير، وظهور الشمولية، وكل ذلك مهد الطريق للحرب الثانية بعد عشرين عاماً فقط. وقد قرر المنتصرون في هذه الحرب عدم تكرار أخطاء أسلافهم. ووجدوا في تاريخ الحضارة الغربية مفاهيم لمجتمع من الأمم لا تدعمه القيم والمصالح والمؤسسات المشتركة فحسب، بل أيضا التحالف العسكري، وكانت الخطوة الأولى نحو أوروبا الموحدة سوقا مشتركة للفحم والصلب. وأصبحت فرنسا وألمانيا، الأعداء في الحروب العالمية، شركاء في صناعة السلم والتجارة في وقت السلم. وفي عام 2008 تمكن المرض من جسد الغرب، وشعر به العالم من خلال تلك الأزمة المالية التي اجتاحت الولايات المتحدة، ولحق أذاها إلى دول الاتحاد الأوروبي، وكشفت عن عيوب هيكلية في ذلك الاتحاد وعانت من تفاقمها دول أوروبية عديدة. وظهرت توترات بين الدول الدائنة والدول المدينة داخل الاتحاد، بالرغم من فرض سياسة نقدية مشتركة، ولكن دون التكامل المالي بين البلدان. وقد عرقل هذا العيب استجابة أوروبا لأزمات الديون السيادية. وقد شهد عام 2015 كارثة تلو الأخرى. حيث أدت موجة من الهجمات الإرهابية إلى زيادة المخاوف الأمنية؛ وأدى تدفق المهاجرين واللاجئين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى فرض أعباء على أسواق العمل، وشددوا على الخدمات الاجتماعية وأثاروا مخاوف عامة. وجاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليوجه ضربة قاتلة لوحدة أوروبا، وترافق ذلك مع موجة عنصرية اجتاحت دولاً أوروبية عديدة وأدت إلى ظهور أحزاب متطرفة تطالب بالعزلة والعودة إلى الدولة الوطنية. ووصلت موجة العنصرية إلى أمريكا وكان انتخاب الرئيس دونالد ترامب عنواناً لمرحلة جديدة مختلفة، حيث لم تعد الولايات المتحدة رائدة الانفتاح الاقتصادي والإنساني في العالم، بل راحت تحارب اتفاقيات التجارة الحرة، وانسحبت من اتفاقية المناخ، كما راحت تحارب الهجرة إليها، لكن هذه السياسات تكشف بلا أدنى شك، أنها دليل على الضعف والتراجع، وخصوصاً أن المجتمع الأمريكي بات اليوم منقسماً بين مؤيد لسياسة ترامب، ومعارض لهذه السياسة، وبالتالي بات هناك مشروعان سياسيان يتصارعان داخل الولايات المتحدة من مستوى القاعدة الشعبية إلى قمة الهرم المتمثل قي المؤسسات الدستورية والأمنية والعسكرية، حيث لا يمكن اليوم رؤية سياسة أمريكية واحدة بسبب التنافس بين الخصوم، وبما ينذر بوقوع ما هو أسوأ في تلك الدولة.إن تسارع وتيرة التراجع في الغرب قد يؤدي إلى حدوث ثورات اجتماعية جديدة، وقد تكون الأيام القادمة حبلى بصراعات تؤدي إلى حروب أهلية، وسوف يكون الاتحاد الأوروبي أول ضحية في مشهد الدوران التاريخي الغربي. إن تجربة السلام والرخاء الغربية التي قاربت على الزوال والانمحاء، تؤكد أنه لا يوجد سلام دائم ولا رخاء دائم، فالمجتمعات لها مسار لا يمكن لها أن تتجاوزه، وهذا المسار مشابه لمسار الآحاد منها، فكما يولد الإنسان وينمو ويكبر ومن ثم يشيخ ويموت، فإن نهضة أي مجتمع ليست دائمة، بل هي محكومة بظروف تاريخية وسياسية وهي ستنتهي بتبدل وتغير تلك الظروف.med_khalifaa@hotmail.com
مشاركة :