عنوان لافت وضعه منظمو «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الرابع» للجلسة التي خُصِّصت لمناقشة المسألة الإيرانية، خلال الأسبوع الماضي في العاصمة الإماراتية؛ «تفكيك شفرة إيران». عنوانٌ يشي برغبة إقليمية في فهم مُحرِّكات السلوك الإيراني، واستكشاف ديناميّات صناعة القرار في بلد أصبح اسمه مُقترناً بكلّ أزمات المنطقة بلا استثناء. ظلّت كلمتان تتردّدان طوال يومين كاملين من فعاليات الملتقى، رغم تنوُّع الموضوعات والقضايا التي ناقشها المؤتمرون؛ إيران، والإرهاب.كان من أبرز نتائج ثورة عام 1979، أن أعاد الكيان السياسي الإيراني الذي عُرِفَ لاحقاً باسم «الجمهورية الإسلامية في إيران» تعريف نفسه وفق مركب هويّة يقوم على عُنصرَيْن مُتمَازِجَيْن؛ المذهبية الشيعية، والقومية الفارسية. وأعاد هذا الكيان أيضاً تعريف نظامه السياسي وفْق نظرية «ولاية الفقيه» التي أفرزت مسألتين رئيستَيْن؛ استمداد شرعية الحكم من خليط غير منسجم من «إرادة الله» و«إرادة الشعب»، وتعريف حدود الكيان السياسي الجديد على أنها خليط من حدود جغرافية، وحدود آيديولوجية، وذلك استناداً إلى مبدأ «رساليّة الثورة»، الذي يعني أنّ الحدود الآيديولوجيّة لإيران، أهمّ من حدودها الجغرافية، وأولى باهتمام النظام السياسي. وهو ما أوجد اضطراباً في مفهوم «الدولة»؛ فأصبحت إيران تُعرِّف نفسَها تارة على أنها دولة ذات سيادة داخل حدودها الجغرافية، وأنها حريصة جداً على حماية هذه السيادة، وتارة على أنها ثورة آيديولوجية، أو قضية أمميّة وإنسانية عامّة، لا تعترف بالحدود، وتُعنى بـ«مناصرة المستضعفين» و«محاربة المستكبرين» في كل أنحاء العالم. وباتَ النظام السياسي أكثر أهمية من الدولة؛ فالنظام هو حامل «الرسالة»، أما الدولة فمجرّد أداة لتحقيق «الرسالة»، والدولة هنا متغيرة؛ تتَّسع أو تضيق، لكنَّ النظام مرتبط بـ«ولاية الفقيه»، و«الإمامة» القائمة إلى الأزل. قد يُجيب مثل هذا الفهم على تساؤلات حول دوافع التوسُّع الإيراني في المنطقة؛ إذْ لا فائض قوَّة في الداخل الإيراني يفرض مثل هذا التمدُّد بمنطق العلاقات الدولية المعروف. لكِّنها مُدرَكات صناع القرار في طهران حول طبيعة دورهم الرِّسالي المزعوم، إلى جانب استثمارهم في هشاشة المحيط العربي.مضى نحو أربعة عقود تقريباً على عمر «الثورة الإسلامية» في إيران. ثبت أنها غير قادرة على تقديم نموذج سياسي أو اقتصادي قابل للاستمرار؛ إذْ تعيش إيران مجموعة من الأزمات المزمنة في الهوية، والنموذج، ومُدرَكات بناء القوة. انعكست هذه الأزمات على سياساتها الإقليمية، ووجهت سلوكها الخارجي. ولعلّ حقيقة أن إيران دولة بلا أصدقاء في المنطقة والعالم، تُثبت بشكل قاطع أنها غير مستعدة، أو أنها ترفض اتّباع نهجٍ مقبول دولياً في علاقاتها الخارجية. أما علاقات إيران بوكلائها في المنطقة، فقائمة على الاستتباع. ويُخطئ من يرى في تنسيق إيران مؤخراً مع تركيا وروسيا تحولاً في سياستها الخارجية باتجاه صياغة تحالفات استراتيجية. هذه مجرَّد تحالفات ضرورة لا تلبث أن تضمحلَّ بنفس السُّرعة التي تشكَّلت بها.يزعم قادة إيران أنّ نشاطاتهم العسكرية والأمنية في الإقليم إنما هي حروب استباقية، لحماية بلادهم من صراعاتٍ كانَ يُمكن أن تجري على حدود إيران وداخلها. لا يلتفت هؤلاء إلى حقيقة أنَّ الاستراتيجيات الدفاعية والحروب الاستباقية لا تتضمَّن وفق الفهم الشائع لها، تجنيد ميليشيات في دول عدَّة على أساس طائفي واضح، وتوكيلها بمهمة فرض هيمنة طويلة الأمد، في هذه الدول، وفي دول أخرى أيضاً، خلافاً لكل القوانين والأعراف الدولية. ولو أقرَّ العالم بأنَّ هذا السلوك هو مجرَّد حروب استباقية، وهواجس أمنية مقبولة، لغرق العالم كله في فوضى عارمة. وفي محاولة لتشخيص هذه الحالة، يقول خبراء في الاستراتيجية بأنَّ السلوك الإيراني في الإقليم ناتج عن خليط غير منسجم من استراتيجيات دفاعية وهجومية.وافق الباحثون المشاركون في الملتقى، ممن يمثلون وجهة نظر الجانب الإيراني، على أن إيران لا تمتلك نموذجاً جاذباً لسكان المنطقة، ولا تمتلك قوة كافية لفرض هيمنتها على الإقليم؛ لكنَّهم يُجادلون بأنَّ طهران قادرة على تعطيل الحلول، وجعل الحياة في المنطقة أكثرَ صعوبة، ما لمْ تؤخذ ملاحظاتها بعين الاعتبار.وعن تجربة الاتفاق النووي يقول الباحثون العرب بأنَّ الاتفاق النووي لم يُغير السياسات السلبيَّة لإيران في المنطقة، كما لم يُفضِ إلى تحسين مواقع القوى المعتدلة في الداخل الإيراني؛ بل العكس تماماً هو ما حصل.لا ينبغي أيضاً إغفال الجانب المعكوس من العلاقة التبادليَّة بين سلوك إيران الخارجي وأزمتها الداخلية، فكما يجب النظر إلى سلوك إيران الخارجي على أنه انعكاس لـ«أزمة الهوية والنموذج»، فليس من شك في أن صراعات إيران الإقليمية، وبخاصة الصراعات ذات الصبغة الطائفية منها، كانت لها انعكاساتها الداخلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بما يعمق هذه الأزمة؛ وصحيحٌ أن اقتصاد إيران لم يدخل مرحلة حرجة بعدُ، بسبب مواردها الغنية، لكنَّ تكلفة الصراعات الإقليمية تمنع رخاءها الاقتصادي، وتُضعِف قُدرتَها على إرضاء الغاضبين والمهمَّشين في الداخل، وهم كثيرون. وبالنتيجة يمكن القول بأن سياسات إيران الخارجية لا تخدم بالضرورة الاستقرار الداخلي، الذي تقول قيادتها السياسية بأنها إنَّما تريد الدفاع عنه.فلماذا تنجح إيران (المأزومة داخلياً، والمعاقبة دولياً) في تهديد أمننا الإقليمي، وتنجح في جعل حياتنا أكثر صعوبة؟ يُجيبُ خبراء بأنَّ نجاحات إيران في المنطقة، ليست ناتجة بالأساس عن عوامل القوة الذاتية، بل هي حاصل استثمارها في أخطائنا، وأخطاء الآخرين؛ هشاشة «الدولة» العربية، والمنظومة العربية، والأخطاء الأميركية، لا سيما في العراق، والتعنت الإسرائيلي، والاستعجال التركي.لكنَّ الإقليم يشهد منذ سنتين تغيُّرات في هذه المعطيات، فهناك محور عربي تشكَّل، وهو يعمل على استعادة «الدولة» العربية، وترميم «المنظومة» العربية. كما أنَّ الولايات المتحدة باتَ لديها استراتيجية واضحة تجاه إيران، وإنْ كانت استراتيجيتها الإقليمية غير واضحة، أو في طور التشكُّل.يستشعر النظام الإيراني اليوم خطراً وجودياً، بعدما قامت الولايات المتحدة بإعادة تعريف علاقتها معه وفقاً لمعادلة صراع واضحة. وبعدما انقلبت كل محاولات استتباع العالم العربي، إلى وعي شعبي ورسمي عميقَيْن، بضرورة وقف النظام الإيراني عند حدوده الجغرافية، وإكراهه على مواجهة استحقاقات الداخل المؤجلة من أربعة عقود.*كاتب من مركز «الإمارات للسياسات»
مشاركة :