يتعين على الطليان إعادة النظر في الخارطة الجغرافية للكرة الإيطالية، حيث سيتوجّب عليهم إذا أرادوا النهوض من جديد والانتفاض قبل أن يغمرهم غبار إعصار “سان سيرو” أن يغيّروا كل شيء.العرب مراد البرهومي [نُشر في 2017/11/19، العدد: 10817، ص(23)] لم يكن الأسبوع الماضي عاديا في إيطاليا، بل ربما كان الأصعب والأقسى والأكثر إيلاما في تاريخ هذه الأمة التي تتنفس عشقا لكرة القدم، لقد مرّ على ملعب “سان سيرو” الشهير إعصار مدمّر أشد وقعا من أعاصير “كاترينا” و”هايان” و”إيرما”، هو إعصار كروي من الدرجة الخامسة أطاح بالمنتخب الإيطالي من عليائه وجعله يتعثّر ويتبعثر كأوراق صفراء مزّقتها رياح خريفيّة عاتية. لم يكن أحد في إيطاليا، بل وفي شتى أنحاء العالم يتوقّع أن يكون منتخب “الأتزوري” خارج حلبة المونديال الروسي، لكن تلك الرياح الصرصر العاتيات اقتلعت جذور هذا المنتخب من مكانها الثابت، وعبثت بها مثلما شاءت قبل أن تبعثها خارج تاريخ موعد مونديال 2018. بعد 60 عاما من المشاركات المتتالية في كأس العالم، وبعد حوالي 90 سنة من الإنجازات المجيدة والعتيدة، وبعد أربع تتويجات تاريخية في المحفل الكوني سيكون “الطليان” بعيدا عن الركب الأول، ربما سيتخّذون طيلة الأشهر السبع المقبلة مكانا قصيا قصد الوقوف ساعات من الصمت ترحما على هذا التاريخ الحافل الذي انتهى للتو بعد حصول ما يجب ألاّ يحصل أبدا. فما حدث في مباراتي الملحق الأوروبي المؤهل للمونديال ضد المنتخب السويدي لم يكن أحد يتخيّله، وحتى إن كانت إيطاليا في أضعف حالاتها، فلا يمكن لها أن تغيب عن هذا الموعد الأكيد، ما كان عليها أن تتخلّف، فثمة منتخبات لا يحلو المونديال إلاّ بوجودها، منتخبات تاريخية وعريقة مثل البرازيل وألمانيا والأرجنتين وطبعا إيطاليا، بيد أن الأخيرة أخلفت الوعد وأخلت بالالتزام التاريخي تجاه موعد الأربع سنوات. لقد كتب منتخب السويد في تلك المواجهة المشهودة آخر فصل من فصول نهاية التاريخ الكروي لمجد إيطاليا، ولأن قدر المنتخبات العريقة القوية هو عدم التخلّف عن صفوة المنتخبات المصنّفة الأولى عالميا، فإن ما حصل للمنتخب الإيطالي ربما يكون حقا الإعلان عن انتهاء هذا السجل الناصع لمنتخب صنع في الماضي الغابر منه والقريب مجدا تحسده عليه منتخبات أخرى. لكن لو نعود بعض السنوات القليلة للوراء، فهل يمكن أن تحمل لنا هذه السنوات تفسيرا منطقيا لما حصل لهذا المنتخب؟ هل يمكن أن نفهم بالتفصيل ماذا حدث حتى يكون مصير منتخب “الأتزوري” الانهيار والخروج عن المسار؟ قد يكون ما حدث لهذا المنتخب هو لعنة أصابته سنة 2006، ففي ذلك العام احتفى “الطليان” بالحصول على كأسهم المونديالية الرابعة، رغم أنهم لم يكونوا من بين المرشّحين البارزين للوصول إلى المباراة النهائية في ظل وجود منتخبات أقوى بكثير، في ذلك ضربت الكرة الإيطالية فضيحة كروية كبيرة بسبب التلاعب بالنتائج تضرّر منها فريق اليوفي بشكل مباشر وكذلك بعض الفرق الأخرى، لكن كان المتضرّر الأكبر هو الدوري الإيطالي وطبعا المنتخب “الأزرق”. ومن تبعات ما حدث في ذلك العام أن مستوى الكرة الإيطالية في تراجع مستمر وتأثرت عدة أندية بشكل أو بآخر من تبعات تلك الفضيحة، لتعيش هذه الأندية أوقات عصيبة خاصة من الناحية المادية ليقلّص إشعاعها أوروبيا، ومعها تراجع توهّج المنتخب. ربما يمكن تفسير ما حصل للمنتخب الإيطالي في تصفيات مونديال روسيا 2018 بغياب برمجة فعّالة وخاصة على مستوى تكوين الناشئة وتأطيرهم بالشكل العلمي الصحيح، والدليل على ذلك أن منتخبات الفئات السنية في إيطاليا كانت عاجزة طيلة السنوات الأخيرة عن مجاراة نسق بقية المنتخبات سواء في أوروبا أو في بقية أنحاء العالم، وفي الوقت الذي واصلت خلاله فرنسا الاهتمام بهذا الأمر تماما مثل ألمانيا وإسبانيا وإنكلترا، كانت خلاله الكرة الإيطالية تئن في صمت مريب وتعاني من ندرة المواهب التي ربما انقرضت باعتزال عدد من اللاعبين الرائعين مثل ديل بييرو وتوتي وبيرلو. لقد غابت الجديّة في التعامل مع هذا الواقع الصعب الذي ينبئ في كل مرة طيلة السنوات العشر الأخيرة بكارثة وشيكة، وحتى التعاقد مع مدرب قدير وكفء لم يكن متاحا ليكتفي صناع القرار في إيطاليا بتكليف مدرب غير معروف أمضى مؤخرا وثيقة السقوط في ليلة حزينة مشهودة. اليوم، وبعد أن حصل المكروه وخلّف إعصار “سان سيرو” دمارا كبيرا للكرة الإيطالية سيكون من الأجدى والأفضل إعادة فصول التاريخ، أو لنقل كتابة تاريخ جديد يتضمّن دستورا جديدا ينصّ وجوبا على حتمية ترتيب البيت من الألف إلى الياء، وربما الإقتداء بتجارب المدارس العريقة الأخرى والمنتخبات التي نجحت إلى حد الآن في المحافظة على مكانتها العالمية. الآن وقبل فوات الأوان، يتعين على الطليان إعادة النظر في الخارطة الجغرافية للكرة الإيطالية، حيث سيتوجّب عليهم إذا أرادوا النهوض من جديد والانتفاض قبل أن يغمرهم غبار إعصار “سان سيرو” أن يغيّروا كل شيء، وربما إن صحّت العبارة رسم حدود جديدة للكرة الإيطالية التي انحسر تأثيرها وباتت بطولتها لا تجد هوى في نفوس أبرز النجوم في العالم. ستكون المهمة الأساسية حتى يعود منتخب “الأتزروي” متألقا من جديد أشبه بعملية بحث جغرافي يدرس من جهة كل النقاط الضعيفة في المشهد الكروي الإيطالي ومن ثمة إصلاحها، ومن جهة ثانية يستخلص كل النقاط المضيئة التي بنت في السابق مجد إيطاليا عالميا وإعادة قولبتها مرة أخرى بطريقة عصرية تتماشى مع المتغيرات الجديدة.. حينها فقط ستستعيد إيطاليا مكانها الطبيعي بعد أن تتخلّص نهائيا من مخلفات الدمار الهائل الذي خلفه إعصار ليلة الثالث عشر من نوفمبر 2017. كاتب صحافي تونسيمراد البرهومي
مشاركة :