منصور بن مقرن ورفاقه.. إلى جنة الخلد

  • 11/21/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

< إن أثمن الدموع وأصدقها هي التي تنزل بصمت من دون أن يراها أحد. جبال عسير وسهولها، سراتها وتهامتها، أصبحت متشحة بالسواد، كل شيء فيها لا يسعه إلا البكاء حزناً على فقد ثلة من خيرة المسؤولين في منطقة عسير. إنما من المستحيل أن يكون النسيان حليفاً لي وللمحبين والحزينين في لحظات رهيبة كهذه، ولاسيما أن الحزن يدخل منازل أهل المكان والمنطقة في شكل خاص قبل أن يكون حزناً وطنياً عميقاً وخالصاً. رحل الأمير الشاب المحبوب من الجميع، الأمير منصور بن مقرن بن عبدالعزيز، ورفاقه البررة، وهم في خدمة منطقة عسير وأبنائها. لا يدري أبناء عسير على من تنهال دموعهم أكثر. العبارات تخذل بصدق حين تحضر للكتابة على وقع فجيعة ذهبت بأرواح عشرة أسماء وطنية كانت تتلمس حاجات البسطاء، وتقف على الحاجة ودعم شمول التنمية لكل المساحات المحبة والآمنة المطمئنة، كل بما تفرضه عليه مسؤولياته وطبيعة الهم والعمل. إن الأحزان تكسر الروح وتعبث بها وتقدمنا في صورة هشة طرية وتعلمنا كيف أن السواد فظيع حين يلقي بلونه علينا. لا أقسى من الموت حين يداهمك في غمرة الشعور بالفرح والبهجة والتطلعات إلى مستقبل مشرق، ولا يمكن المضي إلى فكرة أخرى بالنيابة عن حزن يداهمك. نامت منطقة عسير على فجيعة كبيرة، إذ فقدت في مساء بارد موحش، وفي تحطم طائرة مروحية، ثُلّة من رجالاتها المخلصين، يتقدمهم شاب هو في شفافيته ونقائه كنقاء أجوائها. ولعل الله اصطفى هذه «الثلة» الطيبة إلى جواره الكريم، بعد زيارة تفقدية لمحافظة البرك، يتلمسون حاجات المواطنين هناك، عن قرب وبكل شفافية، لعل انتقالهم إلى الرفيق الأعلى وهم في هذه المهمة لقضاء شؤون الناس، ليكتب الله لهم الخلود في قلوب الناس، ويذكرون بالخير، وتظل الألسن تلهج بالدعاء لهم أبداً. أولئك النخبة الكرام الذين عاشوا فوق أرض عسير وماتوا على أرضها خادمين مخلصين لله. فعلى أرواحهم الطاهرة شآبيب الرحمة، ولهم النعيم المقيم بإذن الله الرحمن الرحيم، وجبر الله مصاب الوطن قيادة وشعباً على هذه الفاجعة التي حلت بنا جميعاً، فإن منطقة عسير ودّعت بوجع بالغ قامات وقيادات ليس من السهل تعويضهم، وإن كان وطني الشجاع والصبور والعظيم زاخراً بكفاءات على مختلف الصعد. كل الذين رحلوا تركوا لنا لحظاتهم الفاخرة ومواقفهم الإنسانية وجملهم النقية الطرية، تركوها لنتعلم منها ونتألم معها وعليها، وكأنهم أرادوا تمرير الفقد من خلالها وضرورة أن نتنبه إلى محتواها جيداً واستعادتها بين حين وحين كي نرمّم بها بقايا الانكسار الذي خلفه رحيلهم. ويكفي للتاريخ أنهم باقون في ذاكرة وطنهم وذاكرة الشرف والإخلاص. هذا الأمير الشاب الذي اكتسب من والده الحلم وضبط النفس والدقة في العمل والانضباط في المواعيد، ومعروف أنه كان يعمل ليلاً و نهاراً بجد وصدقية منذ تعيينه، وقد تفاءلت منطقة عسير بحيويته ونشاطه وطموحاته العظيمة، كان له حُبٌ يتنامى بين أهالي ومواطني منطقة عسير، حب متبادل، معبرين فيه عن تفاؤلهم بما ينوي تنفيذه سياحياً وتنموياً وخدمياً، الأمير منصور - رحمه الله - كان كالشمعة تُحرق نفسها لتضيء للآخرين، ولم تهدأ له حال منذ توليه منصبه ومسؤولياته، إذ كان يتفقد المشاريع ويزور المحافظات، ووقف على الحد الجنوبي، وكان آخر ما قام به صباح ذلك اليوم الأسود زيارة تفقدية لمحافظة البرك وسعيدة الصوالحة التابعة لمحايل عسير، ضمن جولاته التفقدية الدورية، يرافقه مسؤولون في المنطقة، بجولة على متن طائرة مروحية، لعدد من المشاريع الساحلية غرب مدينة أبها، فأسدل الحُزن رداءه على منطقة وأهالي عسير خاصة، والوطن عموماً بهذه الفاجعة. نعم، نحن هكذا في الحياة؛ نبكي ونضحك.. نودع ونستقبل.. وما الخلود إلا طيب الأعمال في الحياة، والذكرى في الممات، وحسن الخاتمة في الآخرة. وهذا الوطن العظيم أنجب كثيراً من الرجال العظام، سواء أكانوا من الأسرة السعودية الماجدة أم من الرجال الذين ضحوا بكثير من أجل هذا الكيان الكبير حتى وصل إلى ما وصل إليه من القوة والشموخ والسؤدد. من هنا يجب علينا ألا ننسى أننا كلما فقدنا ركناً من أركان هذه الدولة العزيزة أن هذه الدولة قامت مرتين في التاريخ على يد رجل واحد من رجال هذه الأسرة، فالدولة الثانية قامت على يد الإمام تركي بن عبدالله، والدولة الثالثة قامت على يد الإمام الموحد عبد العزيز بن عبدالرحمن، يرحمهما الله رحمة واسعة. لذا، والحزن يعصر الأفئدة على رحيل الأمير الشاب.. أقول: وإن فقدناه فيعزينا أن هنالك رجالاً يكملون الدرب نحو إشراقات الغد الأجمل والأبهى من سلالة هذه الأسرة المباركة، كل في موقعه، وكل بحسب عطائه. أعبّر عن هذه الفجيعة بمفردة الحزن الضعيفة في مواجهة هذا الرحيل الجماعي المرّ، لكن - بلا شك - فإن الكتابة هنا جزء من البوح والتعبير الحاد الحارق. فلا شك أن الموت مخيف وبشع، ويشعرك بأنه ينسف الطموحات ويئد الأمنيات ويسحقك ويشلّ تفكيرك في لحظة لم تكن فيها مستعداً لتحمل فاجعة في سياق موت وفراق أبدي. أتأسّى وأعزّي نفسي وأبناء هذا الوطن قبل أن أعزِّي أهل وذوي الراحلين المصابين بعظيم الفقد، وكذا أعزي هذا الوطن الشهم الذي لن ينساهم، فلم ينسَ مَن قبلهم.. رحم الله الأمير وصحبه الكرام، فإلى جنة الخلد في الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. خطب جلل وحادثة مروعة.. لقد فقد الوطن برحيلهم صفوة من شبابه المخلصين في خدمة الوطن في أحلك الظروف والمواقف، ومنا خالص العزاء وعميق المواساة إلى أهلهم وذويهم ومحبيهم ومقدري تضحياتهم كافة، وفي مقدمهم والد الجميع رمز الخير والوفاء المليك المفدى، وإلى الحبيب الغالي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، وإلى أسر المتوفين: القاضي، والجريش، والمتحمي، والقرطيش، والقرزعي، والحميد، وزملائهم الراحلين معهم، ورجاؤنا بأن يتغمدهم الله برحمته ورضوانه وأن يلهم الجميع بفقدهم الصبر والسلوان وطيب الاحتساب.. ولكن ليس للمرء سوى الإيمان بقضاء الله وقدره.. راجين من المولى أن يحفظ هذه البلاد وولاة أمرها وعلمائها ومجتمعنا كافة من كل سوء، وأن يرحم هؤلاء المتوفين جميعاً، وأن يُلهمنا ويُلهم أهاليهم وذويهم الصبر والسلوان، والله المستعان.. و«إنا لله وإنا إليه راجعون».

مشاركة :