اللعبة ذاتها تتطور بعد عقود من السنين، اللاعبون يتغيرون، المتلاعبون بالعقول أولئك القدامى اكتهلوا وتقاعدوا وحلّ جيل جديد لا يهمه أمر العقول كما كان الأمر في الماضي، بل يهمّه صندوق الأسرار الذي لا حدود له.العرب طاهر علوان [نُشر في 2017/11/21، العدد: 10819، ص(18)] مرّة واحدة بصوت واحد من نيويورك إلى لندن إلى برلين هنالك صرخات وليس نداءات تحذير من التلاعب بالكمبيوترات وشبكة الإنترنت. الكل يصوّب أصابع الاتهام إلى دولتين عظميين هما روسيا والصين، بأنهما تتلاعبان بنا. القصة كأنها عادت إلى نوع من حروب باردة قوامها خوارزميات وأصفار وآحاد وثلة من الهاكرز يجري تكاثرهم في مختبرات خاصة. المهمة ليست عابرة ولا سطحية ولا مؤقتة بل هي أساسية ومقدّسة. هكذا صارت تستحث ميزانيات كافية والمزيد من الأقبية السرية والمزيد من قراصنة العالم السبراني البارعين. في منتصف التسعينات ظهر كتاب عالم الاتصالات الأشهر “هربرت شيللر” الذي حمل عنوان “المتلاعبون بالعقول”. كانت كل أطروحاته مدوّية وعجيبة في حينه ووفرت لمن يؤمنون بنظرية المؤامرة مساحة تطمين هائلة بأن كل شيء هو مؤامرة وأن إعلام العالم الرأسمالي وسيدته أميركا كلّه فبركة ومن صنع أصحاب المصالح الكبرى واللوبيات وأن الأخبار ملوثة بالخديعة. شخّص شيللر بكلام صريح كيف يتم التلاعب بعقولنا ومن ثم خداعنا ومن ثم التلاعب بحقائق نظنها راسخة رسوخ الرواسي بينما هي الزيف بعينه، ينسحب ذلك علي انتخابات الساسة. ويبدو أن اللعبة ذاتها تتطور بعد عقود من السنين، اللاعبون يتغيرون، المتلاعبون بالعقول أولئك القدامى اكتهلوا وتقاعدوا وحلّ جيل جديد لا يهمه أمر العقول كما كان الأمر في الماضي، بل يهمّه صندوق الأسرار الذي لا حدود له، إنه معلومات الشبكات تلك التي تغذي العقول بالخديعة. الخوارزميات المعقدة وكل أنظمة الحماية الرقمية لم تمنع رئيسة وزراء بريطانيا وكبير أمناء حماية النظام السبراني فيها من الشكوى المريرة من روسيا والتحذير منها. بريطانيا العظمى في خانق البريكست الضيق وفي كل يوم تشتد الأزمة ولا تكاد تنفرج ما بين ضغط الداخل الإنكليزي والضغط الأوروبي ليلوح في الأفق شبح مرعب هو القرصان الرقمي الروسي. لا يقتصر الأمر عند حدود القلق العالمي من تلاعب روسي ـ صيني في نتائج انتخابات مستقبلية كما جرى الحديث عن انتخابات الرئاسة الأميركية، بل يتسع التلاعب بالعقول إلى منصات التواصل الاجتماعي قاطبة. أن يجري التشويش على متعاطي تلك المنصات فيشاهدون بالعين المجردة اصطفافا، واصطفافا مضادا، ثم يجري جرّهم تدريجيا إلى اليقين بصواب إحدى الجهتين والوقوف معها ثم يتم الكشف أن كل ذلك هو مجرد لعبة اختراق روسية خطيرة مثلا. اللعبة تتسع لتشمل تسقيط خصوم ومعارضين والتشويش على نتائج انتخابية والتضليل بمعلومات خاطئة. تقول منظمة “فريدوم هاوس” المتخصصة بالحريات وبأبحاث وأمن المعلومات إن أعدادا متزايدة من الدول باتت تحذو حذو روسيا والصين في التدخل في شبكات التواصل الاجتماعي ورصد المعارضين على الإنترنت. وكشفت دراسة حول حرية الإنترنت أجرتها هذه المنظمة في 65 بلدا، أن ثلاثين حكومة تلاعبت بالإنترنت في 2017 لتشويه المعلومات الإلكترونية، مقابل 23 العام الماضي وأن عمليات التلاعب هذه شملت استخدام معلقين مأجورين ومتصيدين وحسابات آلية (بوتس)، أو مواقع إعلامية مزيفة. وأضاف التقرير أن تكتيكات التلاعب والتضليل الإلكتروني هذه لعبت دورا مهما في الانتخابات العام الماضي في 18 بلدا على الأقل بينها الولايات المتحدة. بموازاة ذلك تنشر صحيفة الغارديان البريطانية مؤخرا تقريرا يحمل عنوان “كيف تجعلنا شبكة الإنترنت أغبياء” كتبه الباحث نيكولاس كار، يخلص فيه إلى نتائج مذهلة أغلبها يستند إلى بحوث تجريبية تثبت كيف أن الإنترنت تقدم في بعض الأحيان نتائج تتسبب في تضليل جيل بأكمله. هنالك استعداد لقبول خزين المعلومات والتسليم به ثم الانضمام إلى استنتاج الفريق والتسليم به بينما الفريق هو إما روبوت رقمي وخوارزميات خاصة للتضليل وإما جهد إنساني، ولكنه متخصص بتغيير القناعات والمواقف، وبين هذه وتلك يتم إنتاج جيل من المتلاعبين بالعقول من خلال تلاعب بمستودعات المعلومات وتحريفها وتزييفها. كاتب عراقيطاهر علوان
مشاركة :