شخصيات مجهولة، ووجوه من الشرق والغرب، وحرف منقرضة.. يرصدها الراحل عبدالمنعم شميس في كتابه «حرافيش القاهرة» الذي يأتي من بعيد، إذ يضرب صاحبه في ذاكرته المزدحمة، مستدعياً المجتمع القاهري في لحظة حوى فيها الجميع: باشوات وصعاليك، موظفين في القصور الملكية، وحرفيين وصنّاعاً من جهات العالم المختلفة. في «حرافيش القاهرة» صفحات من ماضي العاصمة المصرية، يركز فيها شميس (1918 - 1991) على المنسيين والمهمشين «الذين هم في حقيقة الأمر ملح هذه البلاد وخبزها الطازج»، ويروي نوادر وقصصاً عن شخصيات تتحدث «عربية مكسرة» بلكنات مختلفة، عبرها المؤرخون ولم يهتموا بها، بينما تلتقط حكاياتها، وطرفاً من سيرتها عين مؤلف هذا الكتاب الذي تعود طبعته الأولى إلى سلسلة اقرأ التابعة لدار المعارف المصرية قبل نحو 20 عاماً. ويضم الكتاب نوادر ويرسم صوراً عن زمن الأبيض والأسود، من وسط البلد ومن حول قصر عابدين الشهير. وهنا خمس وقفات تختصر بعض حكايا «حرافيش القاهرة».. وما أكثرها:1 يسرد الكاتب حكاية أحد «الحرافيش» الفلاسفة، الأسطى أحمد النجّار، الذي كان شديد الذكاء وواسع الثقافة، صادق مستعربين وأساتذة. وأكثر ما استهوى ذلك النجار هو صناعة رفوف الكتب: «يسعد سعادة غامرة عندما يطلب منه زبون صنع واحد منها، ويقول له إنه لن يأخذ أجرة الصنعة ويكتفي بثمن الخشب والطلاء فيصبح هذا الزبون من أصدقائه». صاحب المؤلف ذلك «النجار الفيلسوف»، منذ أن كان يسكن قريباً منه في حي عابدين العتيق، وحتى بعدما انتقل - شميس - إلى حلوان، إذ ظل الأسطى يزوره، ويناقشه في موضوعات فلسفية، ما دعا المؤلف إلى مراجعة بعض الكتب برفقة ذلك النجار.2 يتذكر شميس صورة صانع المراكيب السوداني، الذي كان يراه بحي عابدين «يجلس على كرسي منخفض، وأمامه قرمة كبيرة مثل قرمة الجزار وهي منخفضة أيضاً، وكان يدق نعل المركوب على هذه القرمة بشاكوش حديدي ناعم على رأس شبه مستديرة، ثم يقوم بخياطة الجزء الجلدي الأحمر في النعل بخيط قوي متين، ويضغط على النعل بشاكوش آخر يسخنه في النار». ويلفت إلى أبرز سمات ذلك الرجل بعيداً عن الصنعة: «لم أرَ أحداً من زبائنه يماكسه أو يحدثه عن السعر، بل كانوا جميعاً يشترون ويدفعون الثمن بلا مناقشة. وقد كان أهل السودان وأهل النوبة يحملون هذه الخصائص التي تدل على الأمانة التي اشتهروا بها».3 يروي صاحب «حرافيش القاهرة» طرفاً من حياة علي نيابة، الذي يصفه بأنه من «أهم الشخصيات في حي الحسين في الجيل الماضي، بسبب زيه وعظمته وجنونه واستهتاره، فكان هو خديوي حي الحسين بلا منازع، وكان أعظم مجاذيب الحسين شأناً». ومن علي نيابة ينطلق المؤلف إلى طائفة المجاذيب التي لم تقتصر على الرجال، بل ضمت نساء استهوتهن «الطريقة»، وكانت تلك الفئة «تعيش على باب الله؛ أي أبواب المساجد الكبيرة في القاهرة وغيرها من المدن المصرية، ولهم أحوال غريبة وقصص أغرب فهم يقولون كلاماً يشبه الألغاز بسبب اضطرابهم النفسي، ولكن الناس يسمعون هذا الكلام فيفسره كل واحد على هواه أو طبقاً للحالة التي يوجد فيها أو ما يطلبه لنفسه». 4 شكّل الأرمن جالية كبيرة في العاصمة المصرية، وعملوا بمهن كثيرة اشتهروا بها مثل «التصوير وصنع البسطرمة وإصلاح الأحذية». ولكن بعيداً عن كل هؤلاء يصوّر «حرافيش القاهرة» شخصية أرمينية مجهولة: كركور ماسح الأحذية الذي «يحمل وجه شيطان.. في صفرته وأنفه الضخم وعينيه الحائرتين الزائغتين وخديه اللذين يكاد ينطبق أحدهما على الآخر». ويتحذ المؤلف من قصة كركور - حتى مع التحفظ عليها - مادة للتندر، واستدعاء حكاية الجاحظ وما كان معه حينما رأته فتاة جميلة في السوق وطلبت منه أن يصحبها إلى دكان صائغ. وقالت للصائغ: «هذا الذي أردتك أن تنقشه لي على الخاتم»، وحينما سأل الجاحظ الصائغ، رد الأخير: «سألتني السيدة أن أرسم لها على الخاتم وجه شيطان، فقلت لها: إنني لم أرَ الشيطان، حتى جاءت بك».5 تحضر المرأة بين «الحرافيش»، فثمة حكاية عن «جميلة بياعة المشمش»، التي كانت تقف كل مساء على ناصية شارع بعربتها «ولم يعرف أحد من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب». يتذكر المؤلف كيف كانت المرأة تحلي بضاعتها وكذلك ذاتها، إذ ترص المشمش «في شكل هرمي جميل. وتغطيها بورق السلوفان الوردي. ثم تضع عند أول عربة اليد الميزان والكلوب (المصباح) المضاء، فكان المشمش يأخذ لون الذهب». هذا عن لوحة المشمش، أما لوحة صاحبته فيرسمها المؤلف، مركزاً على ملاحة ودلال بنت البلد التي كانت «ترتدي جلابية لونها فاقع دائماً، وتعصب رأسها بمنديل مزخرف الحواشي».. وتكملة المشهد في الكتاب الحافل بقصص الماضي القاهري الثري.
مشاركة :