اقتراف الآثام لدى البشر سلوك متكرر عبر التاريخ، إلا أن بعض ما يحدث في هذا السياق قد يكون شديد الوضاعة قيمياً، كأن تلقي أمّ رضيعَها في حاوية قمامة، ثم تواصل العيش على رغم معرفتها المسبقة أنّ آلةَ الفرم ستُجهز على كل ما في الحاوية. وربما تبدو الأمّ في حالة أخرى، أكثر إنسانية، فتُلقي طفلَها في كيس أسود بالقرب من الحاوية وكأنه «قمامة». ومن هذا المشهد الأخير، تبدأ أحداث مسرحية «شواهد ليل» التي نافست على جوائز مهرجان المسرح الأردني في دورته الرابعة والعشرين، والذي أقيم على مسرحَي هاني صنوبر ومحمود أبو غريب في المركز الثقافي الملكي في عمّان، واختتم أمس الثلثاء. ترصد المسرحية معاناة الطفل اللقيط الذي أطلق عليه مؤلف المسرحية ومخرجها خليل نصيرات «مجهول النسب». وتتتبّع مأساته في إحدى دور الإيواء، ثم استمرار معاناته شاباً في كراج لتصليح السيارات، يصبح بيته ليلاً، وحياته المعيشة نهاراً. فورَ دخول المُشاهد إلى صالة العرض، يجد نفسه يتواصل بصرياً مع دلالة أيقونية مركزية، بوجود سيارة «تاكسي» تحت التصليح، في بؤرة المسرح غطت جماليتها الواقعية الحيزَ الأكبر من مساحته. إلا أن السينوغرافيا؛ مفردات الديكور والإضاءة والأغراض، تطرح في سياق الأحداث جماليات أخرى رمزية، كغرفة معيشة، وأمكنة متعددة مرت بهما شخصيتا العرض؛ الأولى شخصية «مجهول النسب» التي جسّدها ثامر خوالدة، والثانية السيدة التي تريد إصلاح سيارتها الموجودة في الكراج، وأدّت دورَها سوزان البنوي. ويَظهر للمتلقي أن الأنساق الأدائية المنطوقة اللسانية، المتأسسة على القواعد الفونولوجية والنحوية في سياق تطور الأحداث، لم يكن كشفها التدريجي لخبايا هذه الشخوص، لجهة التوصيف الأيقوني، والمعنى المجازي والاستعاري، وتوظيف أمزجتها وهواجسها وثقافتها فقط، وإنما أيضاً من خلال توازي هذه الأنساق، كفعلٍ إشاري شبه لساني مقرون بعلاقة ارتباطية مع الأداء الإيمائي والجسدي، تماماً كما جاء صراخ السيدة من دون صوت كإيماءة، من هول مفاجأتها وهي تكتشف أن هذا الميكانيكي هو «اللقيط» الذي كانت قد ألقته ذات مساء، بعد علاقة غريزية عابرة. ويتأكد للمشاهدين أن هذه السيدة هي التي رمَت رضيعها بالقرب من الحاوية، قبل أن تتعهده دار الإيواء بالرعاية ويصبح ما هو عليه. وفي اللحظة التي تقترب فيها الأمّ منه متشوّقةً لضمّه، يقابلها الابن بالرفض الشديد، قائلاً إنها ليست أمه، وإن أمّه هي «فلتر البنزين» الذي يستنشق منه ليلياً إلى أن يفقد وعيه وينام محاولاً تجاوُز القلق والأرق وحالة الاغتراب عن الذات والمجتمع التي تثقل روحه في وحدته. وقد ساهمت المشاركة المميزة للصوت المنطوق المُسجل للفنان يوسف كيوان، في تعميق رسائل العرض. وظلت الرؤية الإخراجية عبر توظيفها فكرة استنشاق الشاب رائحة الفلاتر المشبعة بالبنزين تارةً، وتناوله حبوباً مخدرة وجدها في سيارة «أمّه» تارةً ثانية، في البناء السطحي للعرض، ووفق أداء الذاكرة الانفعالية، تقنع المتلقي طيلة زمن العرض الثقيل في إيقاعه الداخلي للشخوص، بصدقية حواراتها، التي ظهرت هذياناً لذوات إنسانية تائهة، عاجزة عن التواصل. هذا الهذيان اقترب من حيث الوظيفة التقنية، من هذيان شخوص سارتر في «الذباب»، بينما كانت تسعى إلى العثور على أجوبة عن أسئلتها الوجودية، كاشفةً كماً كبيراً من النوازع الشريرة والوضيعة المخزّنة في النفس البشرية. وجاء هذا التوظيف من جهة أخرى، ليدين، في البناء العميق، النظام السائد للنمط الاستهلاكي الرأسمالي، الذي يهيمن على العالم. وهو ما يشمل شيوع الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، الذي تزيد وتيرته بالتوازي مع مزيد من الانقسام الطبقي والفئوي وما يواكب ذلك من بؤس في الحياة الإنسانية، نتيجة الإعلاء من القيمة المادية للفرد على حساب قيمته الروحية. وقد ساهمت أنساق المظهر الخارجي للممثل من أزياء ومكياج وإيماء وحركات، وتناغمها مع الفعل الداخلي، في إطلاق الزخم التعبيري للعرض، بينما جاءت أنساق المؤثرات السمعية غير المنطوقة من موسيقى نور أبو حلتم، علاماتٍ سيميائية، نتجت من الإيقاع، وتناسق الأنغام، وخفوت أو قوة الصوت وامتداداته. وبعد محاولة تفكيك أبنية العرض السطحية والعميقة، بمختلف الأنساق التي أنتجتها، يجد المتلقي أنه كان يتواصل مع فضاءٍ جاءت جمالياته المسرحية عبثيةً بامتياز. فالفعل الدرامي اتّجه إلى مفهوم اللامعقول في فعل خيانة الوالدين، وبخاصة الأم لرضيعها، كما غابت الحبكة، وغاب تسلسل الأفكار بالمفهوم المسرحي المتعارف عليه درامياً، وكانت الأحداث المتوالية تؤكد للشاب صوابيةَ شعوره بالخيبة من كل ما يدور حوله، لتعمّق في داخله حالة اللاجدوى من أيّ تواصل اجتماعي لأنه سيظل في أعين الآخرين «لقيطاً». وشهدت المسرحية تلاعباً بالألفاظ وحضوراً للمفارقات اللغوية الساخرة، والاستناد إلى العامية، للوصول إلى معانٍ متقاربة نتيجة تغيير بعض الحروف في المفردات، كما حدث عند التطرق للقبض على أحد الشخوص (كبتشينو، ماسكينو، مكلبشينو). كما جاء السياق عبثياً عبر تعظيم دلالات الكتلة الديكورية الوحيدة (السيارة الخربة)، التي تلعب جمالياً الدور نفسه الذي تلعبه «الشجرة» في مسرحية «في انتظار غودو». يُذكر أن المهرجان الذي رعى افتتاحه وزير الثقافة نبيه شقم وشهدَ تكريم الكاتب محمود الزيودي والفنانة سميرة خوري، يتضمن عدداً من العروض المسرحية العربية هي: «السفير» من مصر، و «البوشية» من الإمارات، و «العطسة» من الكويت، و «الوقت الضائع» من العراق، و «كارت بوسطال» من الجزائر، و «روح الروح» من السودان، و «المغتربان» من فلسطين، إضافة إلى «مكان مع الخنازير» و «العازفة» من الأردن.
مشاركة :