يعالج د. أحمد عطية الباحث بمركز المخطوطات - مكتبة الإسكندرية في دراسته "قانون الحرب في نصوص نثر صدر الإِسلام" قضية الحرب في الإسلام، وما دار حولها من شوائب كثيرة لعل بعضها يتلخص في ذلك السؤال: هل انتشرَ الإسلامُ فعلًا بحدِّ السيف كما يزعمون؟ من خلال التأكيد على أن للنص الأدبي شعرا كان أو نثرا، بالإضافة إلى الإيحاءات اللغوية والأدبية التي يحملها هناك إيحاءات أخرى، أو عطاءات أخرى يمكن أن نستنبطها من خلال قراءته قراءة تحليلية أو تفصيلية، وهي ما يمكن أن نسميه بالإيحاءات الفكرية للنص الأدبي. وأشار إلى أن قيمة هذه الإيحاءات الفكرية أنها لو صح استنباطها يمكن أن تسهم في حل قضايا فكرية كبرى دار حولها الجدل طويلا في تُراثنا العربي على مدى قرونِه الماضية التي هي عمر ذلك التراث. إنه توظيف للنص الأدبي، أو بالأدق استنطاق للنص الأدبي، الذي وصل إلينا عن الأقدمين من خلال سلسلة من الرواية صادقة، وإقحامُه في خِضمِّ مشكلات فكرية كبرى طال حولها الجدل في حياتنا الفكرية، وشغلت العلماء كثيرا فأفردوا لها صفحاتٍ طوالٍ من تآليفهم. عمل عطية في دراسته على فترة صدر الإسلام، تلك التي تبدأ من بعثةِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وتنتهي بنهاية الخلافة الراشدة، كونها الفترة الأهم في قضية التشريع وتحديد الأُطر العامة والملامح التي سوف يسير في ضوئها مجتمع المسلمين فيما بعد، ليس في قضية الحرب والنزاع مع الآخر فقط، وإنما في كل القضايا التي تهم المجتمع، سواء في علاقاته الداخلية، أو في علاقاته مع القوى الخارجية المحيطة به. وقال إن استنباط قانون الحرب من خلال الواقع الفعلي لحياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والمترجم في خطبهم ورسائلهم السياسية، فضلًا عن الأحاديث النبوية التي تعرضت لذلك، هو من أنجح الطرق في الذِّب عن الإسلام أمام تلك الدعاوى الكاذبة التي تشدَّقت بها أفواه القوم صباح مساء. ورأى عطية إن قضية قانون الحرب في الإسلام من القضايا التي دار حولها نقاش كبير في فكرنا المعاصِرِ بالذات، وتلقفها غير المنصفين من المستشرقين وأذاعوها في كلِّ حدب وصوب. وقال "إن الحرب في الإسلام أخذت طريقين اثنين لا ثالث لهما، وهما طريقان يدلان - إن أمعنا النظر فيهما، وقارناهما بما يحدث الآن في العالم من حروب هي لون من ألوان الجنون، إن صح القول - يدلان على مدى سماحة الإسلام في علاقته بالآخر حتى في مجال الحروب. ـ الطريق الأول الذي شرعت من أجله الحرب في الإسلام هو رد المعتدي، قال تعالى "فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ". إن الإسلام لم يبدأ بالحرب إطلاقا، وإنما كانت هي الخيار الأخير من خياراته، وإنما لجأ إليها الرسول صلى الله عليه وسلم و وصحابته لرد المعتدين من أهل القوى المناوئةِ للإسلام في جزيرة العرب. وإن الغزوات الثلاث الكبرى الأولى تدل على ذلك دلالة أكيدة، فقد حدثت جميعها في المدينة أو بالقرب منها لصد تلك القوى المعتدية على الإسلام، سواء من قريش وحدها، أو مع من حالفها من القبائل العربية، والتي كانت تهدف القضاء على الإسلام واستئصال شأفته. إن أبسط كتب التاريخ تذكر ذلك، وإن السبل لإثبات ذلك كثيرة، حتى إنَّ المنصفين من المستشرقين أنفسهم قد اقتنعوا بذلك وسجلوه في كتاباتهم. وإن قتال المعتدين وردهم حق مكفول لكلِّ إنسان، فضلًا عن كونهم أصحاب رسالة مهمتها هداية البشر، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يسلب الإنسان ذلك الحق، فهو أمر من الأمور البدهيةِ عند أصحاب العقول. ـ الطريق الثاني من طرق الحرب في الإسلام، أو التي شرع من أجلها الحرب، هو نشر الدين الجديد، ولا يعنى ذلك أن الإسلام يكرِه الناس ليدخلوا فيه، قال تعالى "أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"، وإنما كانت الحرب في هذا الطريق هي الخيار الأخير من الخيارات المتعددة أمام القوم، والتي تهدف إلى الحفاظ على حياة الناس واستبقائها. لقد كانت الدعوة إلى الإسلام هي الخيار الأول إلى البلاد التي يصلون إليها لنشر دين الإسلام، فإن أجاب القوم ودخلوا في الإسلام، فلهم مثل ما لغيرهم من المسلمين من حقوق، وإن أبوا الدخول في الإسلام فعليهم الجزية في مقابل دفاع المسلمين عنهم، وبقائهم في ديار الإسلام، ولا يُعتدى على أموالهم ولا على أنفسهم، وهم أحرار في طقوس عباداتهم، فإنْ أبوا القوم دفع الجزيَةِ، فقد أعلنوا العداء للإسلام صراحَة، هنا وجب قتالهم؛ لأنهم يمثلون في هذه الحالةِ خطرا على الإسلام. وأكد عطية إن جيش المسلمين كان جيش دعوة لا جيش قتال، فالحرب هي آخر ما يلجأ إليه في علاقاته مع الطرف الآخر، على عكس ما يحدث في عالمنا المعاصر، والذي قدمت فيه القوى الاستعمارية خيار الحرب على كل الخيارات الأخرى، ولم تراع حق مدنيين وغيرهم. "الحفاظ على حياة الجند المحاربين من المسلمين" من ملامح قانون الحرب في الإسلام، التي استنبطها عطية من النصوص النثرية التي قيلت في خضم الحروب في صدر الإسلام، والتي تعد من أهم أدوات الذب عن الإسلام ضد حملات التشويه التي قادها المتعصبون ضده، سواء من المستشرقين أو من أهل ديارات الإسلام أنفسهم. وأوضح "لقد كان الحفاظ على حياة الجند من أهم مبادئ قانون الحرب في الإسلام، فلم يُعرف فيما وصل إلينا من تاريخ الحروب في صدر الإسلام أن أحد القادة رمى بجيوشه في طريق الهلكة والدمار، بل على العكس من ذلك تماما، كان المبدأ الأسمى من المبادئ الحربية عند هؤلاء القواد هو الحفاظ على حياة جنودهم من خلال عدة طرق يأتي على رأسها تأمين المسالك التي يسلكونها في طريقهم إلى العدو، ثم وضع الخطط الحربية التي تستهدف تحقيق النصر من أقصر طرقه دون إراقة الدماء والأرواح، ثم تضميد جرحى المسلمين حتى في وقت الحرب لمحاولة الاستبقاء على حياة من فيه رمق الحياة منهم. ولعل من أهم النصوص النثرية التي تؤكد على هذا المبدأ ـ مبدأ الحفاظ على حياة جند المسلمين وعدم تعريضهم للهلكة - كأحد المبادئ المهمة لقانون الحرب في الإسلام تلك الرسالة التي أرسل بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النعمان بن مُقرن قائد جيش المسلمين في معركة نهاوند، وقد جاء نصها: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم؛ من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمرِ اللَّه، وبعون اللَّه، وبنصر اللَّه، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلنهم غِيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار والسلام عليك". ومن الملامح التي توقف عندها وأوضحها عطية "احترام معتقد الآخر أثناء الحرب" حيث رأى أن هذا الملمح من بين المبادئ المهمة لقانون الحرب في الإسلام، وقال إنه تجلَّى في تلك المرحلة التالية لمرحلة الدفاع عن الدين ضدَّ هجمات الآخر من الطرف المعادي والمعاند، وهي مرحلة الفتوحات الإسلامية، تلك التي قويت فيها شوكة الإسلام، وأوكل إلى المسلمين فيها مهمة الدعوة ونشر الدين الجديد في شتى بقاع الأرض. وأضاف "ضرب المسلمون في فتوحاتهم الإسلامية أروعَ الأمثلة فيما يتشدق به العالم الآن من حولنا من أن لكل شخص حرية ممارسة معتقده، وأنه لا يمكن أن يجبر الناس على معتقد ما، ولكن الفرق بين هذه الادعاءات المعاصرة وبين الإسلام أن الإسلام ترجمها حقيقة واقعية، أما ادعاءات القوم فظلت عند مرحلة التجمل في الحديث فقط، دون ارتباط لها بواقع حياة الناس. إن احترام معتقد الآخر كان من أهم مبادئ قانون الحرب في الإسلام، وقد تُرجم هذا الاحترام في بعض وصايا الصحابة السياسية، كوصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه للجيش حال انطلاقه للغزو، حيث قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قِفُوا أُوصِكُمْ بِعَشْرٍ فَاحْفَظُوهَا عَنِّي: لا تَخُونُوا وَلا تَغلُّوا، وَلا تَغْدرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا طِفْلا صَغِيرًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا وَلا امْرَأَةً، وَلا تَعْقِرُوا نَخْلا وَلا تُحَرِّقُوهُ، وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلا تَذْبَحُوا شَاةً وَلا بَقَرَةً وَلا بَعِيرًا إِلا لِمَأكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَوْفَ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَأْتُونَكُمْ بِآنِيَةٍ فِيهَا أَلْوَانُ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَتَلْقَوْنَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَتَرَكُوا حَوْلَهَا مِثْلَ الْعَصَائِبِ، فَاخْفِقُوهُمْ بِالسَّيْفِ خَفْقًا انْدَفِعُوا باسم الله". وأشار عطية إلى "إن الإسلام في قانونه الحربي كان أسبق بكثير من كلِّ تلك الفلسفات الوضعية، التي يؤمن بها غالبيةُ البشرِ في عصرنا الحاضر، من الاستبقاء على حياة الإنسان واحترامها أثناء الحروب. وإن المتصفح لكتب التاريخ الموثوق بها، والتي تمثل مادة حقيقية واقعية تعكس ما كان يحدث في حروب المسلمين، ليدرك قيمة الإنسان في الإسلام، حتى في أحلك الظروف، ظروف الحرب، وإن كان من أصحاب القوى المناوئة لجيش المسلمين والمنازعة له. لقد ضلَّت البشرية في حروبها المعاصرة التي استهدفت الملايين من العُزَّل أو المدنيين ـ إن صح التعبير- الذين لم يشاركوا في الحروب، من الأطفال والنساء والشيوخ.. وغيرهم، فحصدت تلك الحروب في صورتها البشعة هذه حياة أغلب هؤلاء، ويكفي ما تطالعنا به وسائل الإعلام في كل صباح". وشدد عطية على إن قانون الحرب في الإسلام قد ضرب أروع الأمثلة في حسن معاملة الأسرى والحفاظ على حياتهم، فقد وردت كثيرٌ من الأحاديث النبوية التي تبين فضل الإحسان إلى الأسير والرفق به. وإن مما يصح التأكيد عليه في هذا السياق أنه لن تجد دينا من الأديان أحسن إلى الأسرى كما أحسن الإسلام إلى أسراه. هذه حقيقة ليست بدافعٍ من التعصب لهذا الدين، وإنما الحكم في ذلك كله التاريخ بما حواه بين صفحاته من أحداث كبرى تنقل تلك الحقيقة وتؤيدها. محمد الحمامصي
مشاركة :