صنعاء - عادل عبدالله لم يكن يخطر ببال قاسم عبدالله عبدالرحمن الوجيه (60 عاماً)، أنه سيهجر قريته التي ترعرع فيها، وأرضه التي يزرعها ويعتاش منها، في يوم من الأيام، بيد أن الحرب وشبح الموت الذي كان يتهدده وأسرته أجبراه على ذلك. حسم قاسم أمره، واتخذ قراره الصعب بالنزوح من قريته (المعاين) مديرية صبر الموادم، بعد أن امتدت إليها المواجهات المسلحة الدائرة في محافظة تعز منذ عامين وثمانية أشهر، لتصبح إحدى ساحات المعارك الدامية. وفي حديث إلى «الحياة» يقول قاسم: « اضطررت للنزوح إلى صنعاء هرباً من الموت، الذي بات يتهدد أسرتي المكونة من زوجة وخمسة أولاد ذكور وثلاث بنات». ويضيف: «نزحنا من قريتنا التي كنا نعيش فيها آمنين مطمئنين، معززين مكرمين، وتركنا منزلنا الذي نملكه، وأرضنا التي نفلحها ونعيش مستورين من عائداتها، هربنا من الموت، ولكننا هنا أصبحنا نموت كل يوم وكل ساعة، من الخوف، القلق، الحاجة، والجوع، ويقتلنا الإحساس بالذل والهوان». استقرت أسرة قاسم الوجيه منذ نزوحها في منطقة (قاع القيضي) الريفية على بعد نحو عشرة كيلومترات إلى الجنوب من العاصمة صنعاء، طمعاً في الحصول على مسكن بإيجار مناسب لظروف الأسرة التي تكالبت عليها المصائب، وباتت عاجزة عن دفع إيجار المنزل الذي يؤويها بمبلغ 15000 ريال نحو (30 دولاراً)، لتصبح اليوم مهددة بالطرد منه إلى الشارع، نظراً لتراكم الإيجار عليها منذ عدة أشهر. وقال قاسم: «في العام الأول من النزوح، كنا نعتمد على مرتب ابني الكبير هيثم (25 عاماً) الجندي في الحرس الجمهوري، لنعيش بالحد الأدنى، ولذلك لم أتمكن من إلحاق أولادي وبناتي بالمدارس لمواصلة تعليمهم، بعد أن كانوا يدرسون ويحلمون بالمستقبل، لأن أولوياتنا كانت دفع الإيجار والأكل والشرب، ولكننا اليوم كما ترى ليس معنا شيء مهانين، جائعين ومشردين». مشكلة النازح قاسم الوجيه تحولت إلى مأساة حقيقية، وكما يقال المصائب لا تأتي فرادى، حيث لم يقتصر الأمر على النزوح وضيق العيش، بل وصل الأمر بقاسم حد فقدان زوجته ومنزله وأرضه في آن واحد. توقف قاسم عن الحديث وبكى قهراً وكمداً قبل أن يكمل: «بعد عام من نزوحنا مرضت زوجتي فنقلناها للمستشفى، لتظهر التحاليل الطبية أنها مصابة بسرطان الغدة الدرقية، مع ضمور القصبة الهوائية، ولم نكتشف إصابتها بالسرطان إلا في مرحلة خطيرة جداً، وحالتها تتدهور كل يوم. مرضها دمرنا كأسرة، لأننا نازحين ولا نملك قيمة الدواء وتكاليف العلاج المكلف جداً وفوق طاقتنا». وتابع : «اقترضت من كل الناس الذي اعرفهم، ثم اضطررت إلى بيع منزلي والأرض التي أملكها في القرية بثمن بخس، لمواجهة تكاليف العلاج، وإنقاذ زوجتي من الموت، ولكن دون جدوى. صرفنا كل ما نملك قبل أن يتوفاها الله، ففقدناها وفقدنا المنزل الذي كنا سنأوي إليه عند العودة من النزوح، وخسرنا الأرض التي كانت مصدر معيشتنا الوحيد». المعاناة ازدادت تفاقماً بفعل توقف صرف مرتبات موظفي الدولة، وانقطاع مرتب الابن هيثم، الذي كانت الأسرة تعتمد عليه لتوفير الحد الأدنى من المعيشة، ما أدى لتراكم الديون على الأسرة وعجزها عن سداد الإيجار، غير أن قاسم وابنه هيثم لم يستسلما ولم يتملكهما اليأس، فكانا يخرجان للعمل كعمال بناء أو حمالين بالأجر اليومي. وقال: «كان العائد المالي ضئيلا جداً، وكنا نجد عملا في بعض الأيام، ولا نجده في أيام أخرى، وما نحصل عليه في أيام العمل نصرفه على الأكل والشرب، الذي اقتصر على وجبة واحدة في اليوم، غير أن هذا الحال لم يستمر، وأصبحت عاجزاً عن العمل بعد إصابة يدي اليمنى، التي أعجز حتى عن علاجها». ويشرح قاسم قصة إصابته قائلاً: «قبل أشهر عدة فرغت أنبوبة الغاز، ولم نكن نملك قيمة تعبئتها، فذهبت للبحث عن حطب، وأثناء تقطيعي الخشب جرحت ذراعي بقطعة خشب جرحاً بليغاً، وها هي كما ترى متورمة ولا أستطيع استخدامها، ولا أستطيع الذهاب للعلاج لأنني لا أملك المال». على رغم مضي أكثر من عامــــين ونصف على نزوح هذه الأسرة، إلا أن أسباب نزوحها ما تزال قائمة ولا تستطيع العودة إلى المنـــطقة ذاتها التي نزحت منها، ووفق رب الأسرة قاسم الوجيه «فالوضع هناك لا يزال غير آمن لاستمرار المواجهات المسلحة»، وأضاف: «حتى لو قررنا المـغامرة بالعودة إلى القرية فإلى أين سنعود وقد بعنا المنزل الذي كان يؤوينا، وقطعة الأرض التي كنا نعتاش منها». وإلى جانب تلك العوائق، يقول قاسم: «لو تجاهلنا كل ذلك وقررنا العودة، فنحن عاجزين عن تحمل تكاليف الانتقال إلى القرية، فإلى جانب تكاليف السفر من صنعاء إلى تعز، نحتاج دفع مبالغ تزيد عن عشرة الآلاف ريال للشخص الواحد، أجور نقل من تعز إلى القرية بسبب المواجهات المسلحة، ما يعني أننا نحتاج 90000 ألف ريال لتسعة أشخاص، ويتوجب علينا أيضاً قبل ذلك تسديد الإيجارات المتأخرة علينا». ويختتم النازح قاسم الوجيه كلامه بصوت منكسر مصحوب بالبكاء: «أنا وعائلتي ضائعين، ضائعين، فمن ينقذنا من هذا الوضع المدمر الذي لا نقوى على تحمله». أسرة قاسم الوجيه تختزل مأساة إنسانية أليمة لعشرات الآلاف من الأسر اليمنية، التي أجبرتها المواجهات المسلحة في العديد من مناطق البلاد، على مغادرة منازلها وقراها ومدنها، لتستقر في مناطق أخرى، تكابد فيها تلك الأسر عذابات تأمين السكن ولقمة العيش، والحرمان من أبسط الخدمات الطبية والعلاجية. وتؤكد تقديرات حديثة لمنظمة «يونيسيف» أن 2.9 مليون شخص نزحوا داخلياً بسبب الحرب حتى شهر حزيران (يونيو) 2017، عاد منهم حوالى 900 ألف إلى مناطقهم، مقابل مليوني شخص ما زالوا نازحين داخلياً، وقدرت المنظمة عدد الأطفال في سن الدراسة الذين ما زالوا نازحين بنحو 513.000 طفل من أصل 7.3 مليون طفل في سن الدراسة، مشيرة إلى أن الأطفال النازحين معرضون لخطر عمالة الأطفال والتسرب من التعليم لأن أسرهم التي فقدت سبل عيشها غير قادرة على تحمل تكاليف المعيشة ونفقات التعليم. وحسب تقرير مفوضية الأمم المتحدة للاجئين صادر في شهر آذار (مارس) 2017، فإن 50 في المئة من النازحين يعيشون مع أسر مضيفة، 22 في المئة استأجروا مساكن بديلة، 21 في المئة يعيشون في تجمعات ومخيمات للنازحين، 7 في المئة انتقلوا لمنازل أخرى لهم. عاملون في منظمات مدنية يؤكدون أن المحافظات التي شهدت نزوحاً كبيراً هي حجة، تعز، صعدة، عمران، أبين، الضالع، بينما تعتبر محافظة إب والعاصمة صنعاء الحاضن الأكبر للنازحين، وقالوا لـ «الحياة» إن النازحين «سواء في المخيمات أو خارجها يعيشون أوضاعاً معيشية وصحية مأساوية، جراء استمرار الحرب وفقدان الكثيرين لوظائفهم ومصادر معيشتهم»، مشيرين إلى أن «المساعدات المقدمة من المنظمات الإنسانية غير كافية، وأن النازحين المنخرطين في المجتمع خارج المخيمات، سواء المستضافين لدى أسر أخرى تربطهم بها علاقات قرابة، أو الذين استأجروا منازل بديلة ويعتمدون على أنفسهم لتدبر معيشتهم، أغلبهم محروم من المساعدات والسلال الغذائية التي تقدمها منظمات الإغاثة الدولية والمحلية».
مشاركة :