أنا من بدأ بصناعة (كوش الأفراح) بجدة

  • 11/24/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بدأ حياته في صناعة «الباطرمة» وانتهى بترؤسه للأمانة العامة لهيئة الإغاثة العالمية الإسلامية، وما بين البداية واليوم رحلة أكثر من أربعين عاماً نسجت قصة كفاح طويلة ل «حسن بن درويش شحبر» الذي يتبوأ اليوم واحدة من أكبر المنظمات الإغاثية بالعالم، يجول بين قارات العالم ليطعم ذلك المسكين أو يكسو ذلك المحتاج، أو كي يعمل مدرسة هنا أو هناك، رافعاً شعار أن الهيئة وبرامجها موجهة إلى الأعمال الإنسانية التي يحتاج إليها الإنسان ولا تفرق بين لون أو دين إنما نتعامل مع احتياجات الإنسان الإنسانية، قصة « شحبر» تروي فصولاً من تاريخ ذلك الجيل الذي بدأ معاوناً للآباء ويكتسبوا منهم الخبرة إلى واقع حياة يسهمون برسم منحنياته الإنسانية... النشأة والطفولة * مرحلة الطفولة من أجمل مراحل العمر في حياة الإنسان ماذا تختزن الذاكرة عن هذه المرحلة؟ - ولدت في المدينة المنورة وتحديداً في حي العنبرية في شهر ذي القعدة من عام 1380ه الموافق 1960م. وموقع المنزل الذي ولدت فيه مكان كان يطلق عليه (حوش كرباش)، ويتكون المنزل من دورين وهو من البيوت الشعبية المبنية بالحجر، وكان محط الزوار والضيوف، وكان مكتظاً بالسكان، ويسكن معنا فيه جدتي لأمي وزوجها وخالتي، وكان من جيراننا العم حسان الأحمدي، وبيت الدقاق، وبيت بابعير، وبيت المصري، وعندما بلغت سن الثالثة انتقلنا إلى جدة. * كيف كانت المدينة المنورة وقتها؟ - تميزت المدينة بالأحواش والمزارع خصوصاً مزارع النخيل التي تحيط بها من كل جانب وحول البقيع، ولم تكن المباني والزحف العمراني بهذه الطريقة التي نشاهدها الآن والذي أدى إلى إزالة كل مزارع النخيل التي كانت موجودة، وكانت هناك أماكن مشهورة كباب المجيدي، والباب الشامي، وكان لزوج خالتي مقهى في شارع الملك عبدالعزيز على طريق مرور الجنائز من المسجد النبوي إلى البقيع، وكان المقهى حول الحرم والآن كل هذه المناطق أصبحت جزءاً من الحرم. كان المنزل الذي نسكن فيه أيضاً محاطاً بالنخيل من كل جانب وكان عملية التنقل بين البيوت ولبس العباءة للمرأة فيه نوع من الأريحية، خاصة أن الناس كانت تعرف بعضها. لم يكن هناك مياه في البيوت وكان نقل الماء للبيوت فيه نوع من المعاناة فمثلاً كان لدينا في المنزل ما يسمى ب (بيت الماء) وكان عبارة عن حمام وفي نفس الوقت المكان الذي يوضع فيها الماء للشرب، وهو أيضاً مكان قضاء الحاجة فكان لدينا تصنيفات للمياه، ماء للشرب، وماء للغسيل، وهكذا. والملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - هو الذي بدأ بإيصال المياه للبيوت في المدينة المنورة، أما قبله فلم يكن في البيوت مياه وكان في الطرقات ما يسمى ب (الكبَّاس) وهو عبارة عن صنبور يقصده الناس لتعبئة قِرَبِهم وأوانيهم وأخذها لبيوتهم، ثم بدأت المياه تنتشر في كل مكان وتصل إلى كل الدور، ومثله الكهرباء فلم تصل الكهرباء على أيامنا في الدور والمنازل وكان الاعتماد في الإضاءة على الفوانيس والأتاريك. * ما أبرز الأحواش والأزقة والحواري والأسواق والأماكن المشهورة التي كانت في المدينة المنورة على أيامكم؟ - الأحواش عبارة عن مجموعة من البيوت والمساكن المتجاورة التي يجمعها سور واحد، والمدينة النبوية تميزت واشتهرت بالأحواش حتى إن المؤرخين للمدينة لم يغفلوا الإشارة إليها، والأحواش التي أدركتها حوش الأشراف، وحوش التاجوري، وحوش التويجرية، وحوش الخزندار، وحوش الخياري، وحوش الراعي، وحوش زردناي، وحوش القشاشي، وحوش المسيافي، وحوش المغاربة، وحوش النزاهات، وحوش أبو جنب، وحوش أبو ذراع، وحوش خميس باب الكومة، وحوش خير الله، وحوش طوطو، وحوش عميره، وحوش فواز، وحوش كبريت، وحوش كرباش، وحوش مناع، وحوش منصور، وحوش مريمه، ومن الأزقة زقاق الطيار، وزقاق الحبس، ومن حارة الأغوات من الحارات القديمة والعنبرية، ومن الأسواق سوق القماش وسوق العينية، وباب المجيدي، وشارع الملك عبدالعزيز مع النهضة، وعلى ذكر حوش كرباش الذي كنا نسكن فيه أذكر زوجة أخي وابنة خالي في نفس الوقت كانت تحذرنا ونحن صغار من صعود غرفة كانت في السطح، وتُخيفنا بالأساطير التقليدية المشهورة، وتذكر لنا أن فيها جنيًّا وأننا إن صعدنا إليها سيخرج لنا، ولا شك أن ذلك كان رادعاً كافياً لئلا نصعد! شيخ المنجدين * ماذا عن الوالد؟ ماذا كان يعمل؟ - الوالد - رحمه الله – بدأ حياته معالجاً شعبيًّا خاصة في علاج العصب السابع في الوجه الذي يسميه العامة (أبو وجيه) و(أبو كعب) وبقدرة الله في خلال سبعة أيام تشفى الحالة وتعود إلى وضعها الطبيعي، واشتهر أيضاً بعلاج آلام الظهر، وكان يركِّب بعض الأدوية الشعبية كلاصق خاص بالظهر من اللبان والأعشاب والمواد الطبيعية يوضع على الألم ليمتص الآلام. أما عن عمله الرئيس فقد كان – رحمه الله – شيخ المُنَجِّدين ومن خلال عمله هذا تشرف بخدمة المؤسس - المغفور له بإذن الله- الملك عبدالعزيز، حيث كان يعمل الستاير والفرش واللحف، ففي تلك الأيام لم يكن هناك استيراد كما هو عليه الحال اليوم، وكانت الناس تعتمد على الأيدي العاملة الوطنية، فكان الوالد هو الذي يصنع ستائر وفرش قصر الملك عبدالعزيز وفي بداية تكوين الجيش الذي يسمى اليوم الحرس الملكي، سافر إلى الرياض لعمل اللحف والفرش للجيش الذي حول الملك عبدالعزيز في تلك الفترة، وكان الفرش خليطاً من الطرف والقطن ونوع من (السُّسَت) اسمه (شندل) فكانت هذه مهنة الوالد قبل ولادتي، وإخواني يساعدونه في عمله وأنا كنت بارعاً في صناعة اللحف أيضاً. كانت صلة الوالد من خلال عمله وطيدة بالملك عبد العزيز، ولم يكن هناك صعوبة في وصولك للملك عبدالعزيز طالما أنت تعمل معه في القصر لأن الحياة كانت بسيطة جداً وسهلة، وكان من حديث الملك للوالد: (يا درويش الناس هذه لو توحد الله حق توحيده سيأتيها الخير)، وكان الوالد يحدث الناس بهذه الكلمة التي حدثه بها الملك، وكانت الناس تبدي استغرابها منه، بل منهم من يضحك منه؛ لأنه كانت هناك شدة قحط والأراضي قاحلة ولا يسقى الناس المطر إلا نادراً، فحالة اليأس كانت تحمل الناس على الاستغراب من تبدل الأوضاع، وكان الوالد وقتها كسائر الناس يركب حماراً، وبعد أن بدأت رسالة التوحيد في الانتشار وتخلص الناس من البدع والمخالفات الشرعية تحسنت الأوضاع سريعاً وأصبح والدي يركب سيارة فارهة بعد أن كان يركب حماراً، وأصبح يذكِّر الناس بما قاله له جلالة الملك وكيف أن الناس كانت في حالة من اليأس وكيف أصبحت اليوم. وكان الوالد من محبي الزواج تزوج إحدى عشرة زوجة وكان يبقي في عصمته أربعة منهن رغم صعوبة الحياة، وكلهن يسكن في بيت واحد، لكل واحدة غرفة، وكنا في جدة نسكن في البداية في وسط المدينة وكان المنزل من الحجر المنقبي مثله مثل بقية المنازل في ذلك الوقت، ونحن 13 إخوة، خمسة من الذكور وثمانٍ من الإناث، وثلاثة ذكور وبنت من أم واحدة، ومنهم أخي الذي من أمي وابن عمي في نفس الوقت، تعلَّم وحصل الشهادة الابتدائية وقتها وعمل في البريد ووصل إلى منصب مدير عام بريد جدة. وكان الوالد لديه أسلوب فريد في التربية فهو لا يضرب وإنما كان يكتفي بالنظر إليك بعينه إذا أخطأت أو إذا أراد منك شيئاً ولديه ضيوف، وأنا استخدمت نفس هذا الأسلوب الأمثل في التعامل مع أولادي. * منذ متى وأنت تساعد الوالد في هذه المهنة؟ - منذ الصغر وحتى قبل أن أدخل سنة المدرسة وكنت متخصصاً في صنع الباطرمة وأغلب الزبائن كانوا يقصدونني خصيصاً لأنني كنت دقيقاً في عملي، فمثلاً حرف القيطان أغلب الصبيان يعملونه بسرعة ويكون ظاهراً، وأنا كنت أحرص على أن يدخل ما بين لفة القيطان واللفة الثانية باحترافية بحيث لا يظهر أن هناك خيطاً ما بين القيطان. وكنت أيضاً أعمل اللحف وكثير من الناس لا تعرف كيف يدخل القطن وسط اللحاف لأن القطن ممتد داخل اللحاف، وكنا نقلب قماش اللحاف ونجعل الوجوه في الداخل ونخرج القطن للخارج ونفرده ثم نحضر القطن ونفرده على اللحاف بالمساء، وكان لدينا سيخ يشبه الخيزرانة نفرد القطن ونضربه به، ثم نلف اللحاف إلى أن يصل إلى الفتحة ثم نلفه من الجهة المقفلة إلى أن يأتي عند الفتحة، ومن ثم نقلب الداخل للخارج والخارج للداخل ونرجع نفرده، وبهذه الطريقة يكون القطن متساوياً ومتوازياً، وبالعصا نعيد توزيعه وقبلها نكون رسمنا على ورقة خارجية كيف تكون الرسمة، ثم نبدأ بوضع المركز في الوسط ثم ننتقل للأطراف ونعمل خطوطاً طويلة على شكل مربع ثم نمشي المربع بالكشكبان الحديد كي نلف الإبرة وهكذا، وما زلت أذكر موقفاً حصل لي وعمري خمس سنوات في بداية عملي مع الوالد في هذه الصنعة. * ما هذا الموقف الذي حصل لك في بداية عملك مع الوالد؟ - أول ما بدأت العمل مع الوالد كنت أرافقه منذ الصغر وكان لديه محل تجاري في شارع قابل بجدة مقابل باعشن، وأذكر عندما جاء التلفزيون الأبيض والأسود عرضوا برنامج عن المطافئ واستهوتني فكرة البرنامج وكنت وقتها في سن الخامسة من عمري فأحببت أن أقلدهم واخترت وقت ذهاب الوالد لصلاة الظهر في المسجد وكان رحمه الله عندما يذهب للصلاة يضع ساتراً من القماش على المحل لإقفاله وكان لدينا المخدات نعمل لها ستاناً من الأطراف وفي الوسط نعمل لها ستاناً من نوع آخر، فأخذت ستان المخدة ولبسته وانتظرت إلى أن ذهب والدي للمسجد وكان أمام المحل زير مملوء بالماء يشرب منه الناس، واشتعلت النار في المحل وعلت الأدخنة وامتلأ الشارع بالدخان فاجتمعت الناس وأطفأوا النار بماء الزير ولولا لطف الله ثم حضور الناس لإطفاء النار في الوقت المناسب لاشتعلت النار في كل شارع قابل وما زلت أتذكر ذلك الموقف ولن أنساه ما دمت حياً. * كم ريالاً كنتم تتقاضون على تنجيد اللحاف؟ - في حدود الثلاثين ريالاً. * في أي المواسم يكثر الطلب عليكم؟ - في موسم الأفراح تجدنا في حالة استنفار نبحث عن زيادة عدد المعلمين الذين يعملون اللحف، وكنا نحضر بالات القطن من مصر والهند ولم يكن لدينا مكائن لنتف القطن في مرحلة البدايات وكنا ندقه بالوتر كي ينتفش، ثم أحضرنا مكائن من سوريا تشبه المناشير نضع فيها القطن فتقوم بنفضه للداخل بطريقة سريعة. * ما أبرز المهام التي كان يقوم بها الوالد باعتباره شيخاً للمنجدين بمدينة جدة؟ - هي عملية تنظيمية لمنح التراخيص للمتقدمين لمزاولة هذه المهنة، حيث يترتب على منح الترخيص الاختبار العملي، حيث يأتي الشخص ويعطى المهام، ومنها يطلبون منه عمل اللحاف فالذي يجيد عمل اللحاف ينجح في الترخيص، ويطلبون منه أيضاً عمل بيت مخدة ومسند، ويسألونه عن الطرف وأنواعه وأين يباع فإذا قام بعمل كل ذلك يعطيه الترخيص لمزاولة هذه المهنة. * لماذا انتقل الوالد من المدينة المنورة إلى جدة؟ - لأن الحياة التجارية كلها كانت في جدة وكثير من عوائل المدينة المنورة الآن يسكنون في جدة حتى زوجتي من أهل المدينة وأنا تزوجتها وهي تسكن في جدة ووالدها كان يسكن في جدة وعائلتهم معروفة وهي عائلة الزُللي، وكان هناك ارتباط بيننا وبين جدة فكثير من أهلنا كانوا يسكنون في جدة، وجدي لوالدي كان يسكن جدة. على مقاعد الدراسة * ننتقل للحديث عن مراحل الدراسة فماذا عن هذه المراحل بدءاً بالكتَّاب إن وجد؟ - درست على يد سيدتين فريدتين وهما فعلاً اسم على مسمى لأنهما فريدتان من نوعهما، كل واحدة لديها عصا تطولك وتلسعك وأنت في آخر الفصل، الأولى اسمها (فريدة النعمان) والثانية اسمها (فريدة الرشخان)، وكانت الأولى تدرسنا القرآن الكريم في منزلها الأولاد مع البنات، وكانت ترسلنا للسوق والبقالة كي نقضي لها إذا نقص عليها شيء أو احتاجت لأي شيء، وكانت الدراسة بمقابل حوالي خمسة ريالات في الشهر وكانت أمي هي التي تحاسبها والدراسة على الحنابل، بعدها انتقلت للدراسة في كُتَّاب فريدة الرشخان وكان كُتَّابُها مرتباً أفضل من الأولى، حيث كان لديها ما يشبه الفصول الدراسية، فكان لديها طاولات تتسع لجلوس ستة طلاب معاً في بيتها وكانت تسكن في الدور الثاني وفي الدور الأول الكتّاب. * وبعد الدراسة في الكتاب؟ - بعد الكُتَّاب التحقت بالمدرسة الفيصلية وكانت الدراسة فيها على فترتين، فترة في الصباح وفترة بعد العصر وكانت فترة العصر في البداية على الحنابل، ثم جاءتنا الطاولات الكبيرة ثم الطاولات الصغيرة، ثم انفصلت المدرسة الفيصلية واستأجروا مبنى في نفس الحي أبعد قليلاً وهو عبارة عن عمارة بها حوش اسمها (المغيرة بن شعبة)، ودرست في البداية في الفترة الصباحية وعندما زاد العدد تم تحويلنا لفترة العصر وأنا في السنة الخامسة، ثم عدت للمدينة المنورة والتحقت بالمدرسة الفيصلية بحي قربان قريب من حارة المغاربة إلا أنني لم أكمل العام وسرعان ما عدت لجدة إلى نفس مدرستي السابقة وحصلت منها على شهادة المرحلة الابتدائية بعد أن درست فيها الصفين الخامس والسادس الابتدائي. * هل كانت الفلقة موجودة على أيامكم؟ - نعم كانت موجودة، ومع أنني كنت مسالماً إلا أنني عوقبت بها مرة واحدة من مدير المدرسة لموقف لم أنسه في حياتي، فقد كان لدينا أستاذ رياضيات فلسطيني اسمه سليمان سمورة، وكان شديداً، ومع أنني كنت جيداً في الرياضيات إلا أنني عوقبت منه بالضرب في اليدين كثيراً بعكس أستاذ فلسطيني آخر كان يدرسنا القرآن الكريم اسمه (علي سعيد)، ولم يكن يضرب إطلاقاً. * ما الموقف الذي عملته وأدى إلى وضعك في الفلقة من قبل مدير المدرسة؟ - الحقيقة هو موقف مضحك، فقد كان لي زميل من أعز أصدقائي اسمه عمر باخشوين، وكان معنا زميل مؤذٍ، يؤذي كل أحد، فصادف أنني ناديت على عمر باخشوين فجاء وعندما كان واقفاً معي رآه زميلنا الشرير وضربه، فجاءت جدته وشكتني لمدير المدرسة ظناً منها بأنني استدرجته لكي يقوم زميلنا المؤذي بضربه، فما كان من مدير المدرسة واسمه آدم حويكم إلا أن وضع رجلي في الفلقة، (وعينك ما تشوف النور) فلم أستطع المشي من حرارة الضرب لأن الفكرة العامة لدى عامة الناس هي أن تقول للمدرسة: (أنتم لكم اللحم ونحن لنا العظم)، وما زال الأخ عمر باخشوين صديقاً لي وهو يتذكر الموقف الذي بسببه أكلت الفلقة ظلماً، وكانت هناك طرق نستخدمها للحدِّ من حرارة الألم سواء كان الضرب بالفلقة على القدمين أو اليدين. * ما هذه الطرق التي تستخدمونها للحد من حرارة الضرب بالفلقة؟ - كنا نذهب لحي الهنداوية بجدة وكان فيها منطقة أرضها سبخة مملحة رطبة، وفيها قليل من الماء، كان الجمالة يأتون إليها لدهن الجمل المصاب بالجرب فيها بالقطران، فكنا نذهب لهذه الأرض ونضع الروث مع القطران الذي يستخدمونه للجمل وندهن به أيدينا وأرجلنا حسب نوع الضرب، فإذا كان الضرب على اليدين ندهن به اليدين وإذا كان على الرجلين ندهن به باطن القدمين وهكذا. وبعدها انتقلت للمرحلة المتوسطة، حيث التحقت بمدرسة ابن تيمية وكان مديرها الأستاذ يوسف الثقفي وكان بها مدرس سعودي يدرسنا الرياضيات كان محباً لتخصصه وقد حببنا في هذه المادة ثم انتقلت بعدها إلى ثانوية الصديق بعد أن أنهيت المرحلة المتوسطة وكان مديرها الأستاذ بكر كنوي وكانت في حي القريات، وهو أحد أحياء جدة الشعبية، وكان أكثر سكانه من إخواننا اليمنيين وأهل الجنوب، وكانوا يحتفلون بأفراحهم وكنا نشاهد الحمير والأحصنة في الشوارع والرجال مع النساء، وكانت الحياة سهلة وبسيطة ومنها حصلت على شهادة الثانوية العامة القسم الليلي. كوش الأفراح * جيلك كان جيلاً مكافحاً فهل كانت هناك أعمال شاقة زاولتها في تلك الفترة؟ - عملت في البداية مع الوالد في التنجيد، ثم عملت بعدها في عمل (كوش الأفراح)، ولم يكن على أيامنا هناك قصور أفراح لكن كان هناك ما يسمى ب(الكوشة) نعملها في المنازل، فكنت أحمل الخشب على ظهري وكتفي وأصعد به ستة أدوار إلى أن يحمر ويزرق كتفي، وكانت أمي تدهنه لي بزيت الزيتون وأحياناً بزيت السمسم للتخفيف من حرارة الالتهاب، فكنت أصعد بالخشب على السطح وكانت الكُوَش في القديم عبارة عن مجموعة من الخشب يسموها (الأحصنة أو الحمير). وفي أحد الأيام كنت نائماً في الغرفة وأنا أنظر للسقف، وكان سقف الغرفة مصنوعاً من الخشب فقلت: لماذا لا أعمل مثل هذا السقف بدلاً من أصعد بالخشب للسطح، وكانت ابنة أختي متزوجة بشخص نجار من بيت البنوي فجلست معه وعرضت عليه الفكرة، وفكرنا في الموضوع معاً وقلت له: أريدها بهذا الشكل لكي تخفف علي سرعة التركيب والوقت، فبادرني وقال: جاءت الفكرة. فقلت له: كيف؟ قال: نحضر أربعة أعمدة ونضع عموداً رئيسيًّا، ثم نصنع على العمود نفسه ما يشبه البلكونات الخارجية من الخارج، ثم نخرق الخشب ونعمل له في الجنب ألواحاً عريضة، ثم نعمل فتحة ثابتة بحيث نضع المسمار الطويل ونشده من الداخل إلى أن نُوقف الأربعة أعمدة، ثم عمل لي فواصل للأعمدة مثل الذي في الغرف، ثم وضع فوقها الطبق وأصبحت العملية سريعة جداً، وفي الأعلى نفس الشيء، وكانت في البداية مسامير ثم في مراحل متقدمة عملناها بالحبل بحيث نضع حبلاً للقماش في كل طرف بدلاً من أن ندق القماش الذي في السقف، ونشد بالحبل ليكون مظلة، ونجحت العملية وأصبحنا بارعين فيها. * كم ريالاً كنت تأخذ على عمل الكوشة؟ - في البداية كنت آخذ ثلاثمائة ريال وعندما جاءت الطفرة ارتفع السعر إلى ألف ومائتي ريال بالمراعاة والواسطة، وعملت سائق أجرة (ليموزين)، كان جارنا لديه تاكسي (ليموزين) يعمل عليه وقت الصباح فكنت آخذه وأعمل عليه من بعد العصر، وأطلع في اليوم مبلغاً يراوح بين الثلاثمائة إلى أربعمائة ريال. قصة زواج * على ذكر زواجك فمتى كان هذا الزواج؟ وما قصته؟ وهل كان لك دور في الاختيار؟ - بدأت عندي الرغبة في الزواج عندما كنت طالباً، حيث أخبرت الوالدة برغبتي في الزواج وكانت ترغب في تزويجي من الأقارب، وكان أخي الأكبر لديه محال ذهب وكان له صديق يعرفه ويعرف أن لديه بنات فقال أخي: لي زميل من أهل المدينة المنورة وأهل المدينة بركة ونعرفهم، وله بنات، ما رأيك نخطب لك منهم؟ فقلت له: موافق ولكن عليك أن تقنع الوالدة أولاً، فذهب أخي عبدالعزيز رحمه الله وحدث الوالدة بالموضوع وكان أخي بمنزلة صديقي مع أنه يكبرني سناً فوافقت وذهبنا للتقدم لهذه العائلة وكان ذلك وقت صلاة العشاء، فكنت أسأل الناس وهم خارجون من المسجد: أين منزل نزار الزللي – وهو والد العروس التي سأتقدم لخطبتها - فأشار لي أحدهم على ولده، فسألته ما اسمك؟ قال: اسمي إياد نزار علي محمود زللي، فسألته عن والده أين هو؟ فقال: الآن يخرج من المسجد فعندما خرج المسجد أشار لي عليه، فذهبت معه للمنزل وكان أخي قد حدثه بزيارتنا له ورغبتنا في خطبة ابنته لي، وعندما دخلنا وجلسنا سألني هل تريد أن ترى العروس؟ قلت له: لا ليس الآن أريد أن أفكر، فلم يسمع كلامي، حيث ذهب وأحضرها ودخلت علي، وقلت له: أنا موافق من الآن على بركة الله وحصل النصيب وعقدنا العقد في المسجد الحرام والفرح في الفندق. من الجو إلى البحر * نعود لمواصلة المشوار أين كانت الوجهة بعد الحصول على الثانوية العامة؟ - عندما تخرجت من الثانوية العامة كانت الأبواب مشرعة على مصراعيها، وكان فكري مشتتاً ووقتها كان أخي يعمل في البريد وقال لي: تعال نبتعثك إلى كندا، وكان بعض زملائي التحقوا بالقطاع العسكري وبعضهم ذهبوا للخطوط السعودية فزملائي الطيارون أخذوني معهم للخطوط السعودية، وكانت في عمائر الزين وهناك أجروا لي اختباراً للقبول وقبلوني، لكن زملائي الآخرين ذهبوا للقطاع العسكري وأغروني، خاصة أن أخي كان قد ذهب قبلها في بعثة عسكرية لأمريكا وزرتهم في قاعدة عسكرية بساندياقو وهناك رأيت إحدى العجائب التي لا أنساها. وذهبنا أيضاً إلى تكساس ومنها إلى كاليفورنيا لزيارة ابن أخي حامد في كاليفورنيا وكان يدرس في كلية عسكرية فدخلنا عليهم في قاعة المحاضرات وكان معهم اللواء محمد أحمد عسيري كان قائداً للأسطول الشرقي قبل أن يتقاعد وكان آنذاك نقيباً، ومن إعجابي لبرامجهم التدريبية قررت أن أدخل القطاع العسكري، فرجعت للخطوط السعودية واسترجعت أوراقي وسجَّلت في البحرية وابتعثت. * إلى أين كان الابتعاث؟ - كان نصيبي أن ابتُعثْتُ لباكستان بدلاً من أن أُبتَعَثَ لأمريكا، ولم يكن مطار باكستان آنذاك على مستوى متقدم، فعندما وصلت إلى هناك ركبت ما يسمى ب (الركشة)، وكنت في حالة يرثى لها وبعد أن نزلت منها ركبنا قارباً وذهبوا بنا إلى كلية (رهبر) في منطقة (منوره)، وأول ما دخلنا الكلية أخذونا للحلاق وكان هناك شخصان يقومان بالحلاقة، فحلقوا رؤوسنا وشواربنا، حتى إن بعضنا لم يعرف بعض أصحابه بعد الحلاقة لتغير ملامحهم، فمثلاً كان من زملائي عبدالحليم سليمان أبو داود فكنت أبحث عنه ولم أعرفه مع أنه كان معنا لأنه أصبح بلا شعر ولا شوارب. * كيف وجدت الكلية؟ - كانت الكلية شديدة جدًّا في التدريب، وكانت تدريباتها قاسية، والماء فيها شحيح، كان الشخص يعطى سطلًا وبعد تمرين الفجر تقف في الطابور لكي تملأ السطل بالماء وتضعه تحت السرير، وكان معنا طلبة متقدمون عنا في المراحل النهائية وكانوا متسلطين علينا، فكانوا يأخذون سطولنا المملوءة بالماء النظيف، ويضعون مكانها سطولاً مملوءة بماء البحر، فيأتي الواحد منا مستعجلًا يريد أن يغتسل فيفاجأ بالماء والملح، لكننا اكتشفنا فيما بعد الخدعة، وأصبحنا نضع سطولنا في الدولاب ونغلقه بالأقفال لنتقي شر هؤلاء المتسلطين. كان التدريب قاسياً جداً وكانوا يتفننون في اختراع أساليب العقاب، وكان هناك عقاب وهي أن تضع رأسك في الأرض ورجليك على الجدار، ويديك خلفك بحيث يكون ثقل الجسم كله على الرقبة، وهناك تمرين آخر وهو الضغط، حيث يأتون لك بغطاء زجاجات البيبسي ويضعوها لك على الأرض وأصابعك عليها، ويطلبون منك عمل تمارين الضغط، وهناك تمرين ثالث اسمه (وضع الدجاجة) وهو أن تدخل يديك من بين رجليك وتمسك أذنيك وتقفز، فبدأت أستنكر مثل هذه التمارين العقابية. وكان في الكلية صانع الأحذية فكنت أذهب وأجلس عنده للمذاكرة، فخاف مني في أول الأمر، ثم اطمأن إلي حينما علم أني من المدينة المنورة، وأصبح يعمل لي الشاي ويخدمني ولكوني كنت متفوقاً على زملائي عُيِّنتُ (قائد سرية)، وحينما عُيِّنتُ لم أوافق على كل هذه التمارين في سريتي، وكنت أمنع زملائي من عملها، وقلت لهم: إذا أردتم أن تجازوا الشخص فلديكم الميدان اطلبوا منه أن يجري فيه عشرين دورة بدلاً من أن تخترعوا له مثل هذا العقاب الذي يؤدي إلى الإعاقة. * ما التقصير الذي يعمله الطالب كي يستحق معاقبته بمثل هذا الجزاء؟ - ليست هناك أمور محددة بالطبع، ولكن من أشهر المخالفات التي يعاقب عليها عدم تحية القائد إذا كان ماشياً، أو المشي بجواره بخطوات غير منتظمة، ولكني منعت كل هذه الأساليب عندما أصبحت قائداً للسرية ورفضت أن يجازى أي طالب في سريتي بهذه الطرق، فنحن لم نرسل من بلادنا كي نعود لهم معاقين، لدرجة أنهم أنزلوا طالباً يسبح في منطقة قذرة مليئة بما يسبب حمى التيفوئيد، وكان الطلاب خليطاً من ليبيا والبحرين وجنسيات أخرى مختلفة حتى من الدول الإفريقية وكانت لغتي الإنجليزية جيدة، أما فيما يتعلق بالأكل فكانت الصراصير تسرح معنا يميناً ويساراً على الطاولة، وكانوا يحضرون لنا شُربة كراتشي، وهي مكونة من كل المخلفات والليمون الذي فوق الطاولة، ويقولون لنا كلوا، ولكن للأمانة كان أكلنا بتوصية خاصة من السفارة، حيث كانوا يدفعون لهم أموالاً طائلة للاهتمام بنا. مواقف ومفارقات * ما أغرب موقف مر عليك أثناء دراستك العسكرية في الباكستان؟ - هو ما حدث لي أثناء الدراسة في الكلية، حيث كنت أقوم مغرب كل يوم بعمل (التمام) وهو تحضير الزملاء والتأكد من وجودهم جميعاً وكنت أساعد بعض الزملاء فأحضِّر بعض المتأخرين الذين لم يحضروا في الوقت المحدد، وأغض الطرف عنهم، وأرفع التمام للكلية كي يذهبوا بعد المغرب لتناول طعام العشاء، وفي أحد الأيام رفعت التمام وكان أحد الزملاء قد تسلق سور الكلية وذهب لشراء عشاء من القرية التي بجوارنا لعدم رغبته في عشاء الكلية فقبضوا عليه، فعندما علمت جن جنوني لأن هذه فيها مسؤولية وهنا لا أنسى موقف أحد الزملاء الذي قال لي: أنت اذهب للصلاة، وأنا سأقول بأنني أنا الذي قمت بالتمام وأنا الذي رفعته هذا اليوم بدلاً منك، فذهبت وتحمل هو تبعات المشكلة عني فما كان من الكلية إلا أن جازوا الأخ الليبي جزاءً كاملاً من الألف إلى الياء. * ماذا كان نوع الجزاء الذي أخذه؟ ولماذا أعترف هو بأنه السبب فيما حدث وأخذ الجزاء عنك؟ - الجزاء درجات، وهذا الجزاء رمزه (س)، ويتضمن شد سفري وسلاح في الميدان لمدة سبعة أيام، الطلاب يخرجون من الغداء ليرتاحوا وهذا يذهب للميدان لدرجة أنهم كانوا يضعون له السلاح بين رجليه، ويطلبون منه أن يقفز، وتحمل جزاه الله خيراً عني الجزاء مع أنه ليس سعوديًّا، ربما لأنني كنت أتعامل معهم بأسلوب راقٍ أثَّر فيهم، وكانت هناك محبة وأخوة متبادلة بيننا، وأنا ما زلت أتذكر موقف هذا الرجل الأصيل الذي تحمل سبعة أيام من الجزاء عني مقابل أن لا أتعرض لأي مساءلة أو جزاء، وكانت النفوس مبنية على الخير وربما لأنني من مدينة الرسول (من المدينة المنورة)، وعلى ذكر المدينة المنورة فالباكستانيون جميعهم يحترمون، بل يتقربون إلى الله بحب أهل المدينة وما زلت أتذكر موقفاً بهذا الخصوص. * ما هذا الموقف الذي ما زلت تتذكره بخصوص محبة الباكستانيين لأهل المدينة المنورة؟ - أذكر مرة ذهبت أنا وزميلنا محمد التركي وأحد الضباط من الكلية لسوق الغنم لكي نشتري ذبائح، وكان والد زميلنا محمد التركي مؤذناً في المسجد النبوي الشريف، فعندما وصلنا للسوق قال لهم الضابط الباكستاني: إن هذا والده مؤذن بالمسجد النبوي، فاجتمع جميع تجار الأغنام والباعة في السوق حول هذا الرجل وأصبحوا يتمسحون به بنية البركة لكون والده مؤذناً بالمسجد النبوي وباعوا لنا بأقل الأسعار لدرجة أنني ركبت أثناء عودتنا من السوق في صندوق السيارة مع الأغنام لأن رائحة زميلنا أصبحت لا تطاق من كثرة تمسح تجار الأغنام به. * كم كانت مدة الدراسة في الكلية؟ - كانت أربع سنوات، ثلاث منها داخل الكلية، وسنة درسنا فيها مجموعة تخصصات، حيث أخذت سنة في تخصص (رجل البحار) نبحر فيها على السفينة، ومرة أرسلونا إلى أمريكا بالطائرة، ومن ثم اشتروا سفينة، ومما يدلك على أن الباكستانيين مميزون في سلاح البحرية أننا عندما ذهبنا نسأل عن هذه السفينة قالوا: هذه السفينة ستكون أساساً هدفاً يجربون عليها أحد الصواريخ ويبدو أن السفارة أو ملحقهم العسكري رآها رخيصة فاشتروها وأبحرنا فيها. على كاسحة الغام * وماذا بعد التخرج والعودة للمملكة؟ - بعد أن عدت للمملكة أعطونا دورة تدريبية للانتقال من المصطلحات الباكستانية إلى المصطلحات العربية في المعهد الفني للقوات البحرية في (الراكة) بالمنطقة الشرقية، وبعد الدورة تم تعييني ملازماً على إحدى سفن كاسحات الألغام على أمل أن تكون في جدة، وجاءت حرب الألغام بين إيران والعراق فانتقلنا في سفينتنا تلك من جدة عبر باب المندب، وكانت ترافقنا سفينة مقاتلة اسمها (المدينة) أصبحتُ فيما بعد قائداً لها أي قائد لنفس السفينة التي رافقتنا، ومعنا سفينة إمداد أخرى اسمها (بريدة) لكنها بسبب الأمواج تعطلت واضطررنا إلى سحبها لعُمَان، ومكثنا في عُمَان إلى أن تم إصلاحها لأننا لم نستطع إصلاحها في عرض البحر لأن الوضع كان صعباً جداً بسبب الموج. وواصلنا سيرنا إلى المنطقة الشرقية ووقتها كنت قد تزوجت ورزقت بالابن أحمد وكنا نطلع في مهمات وكان أهم شيء لدينا المنصات والمناطق الملاحية وكانت مهمتنا مكافحة الألغام حتى إن بعض زملائي من القوات الخاصة من دفعتي أحضروا لهم ألغاماً على الشاطئ ووضعوا ساتراً وعملوا كل الإجراءات الاحتياطية وصوبوا على اللغم الأول والثاني والثالث لكنها لم تنفجر فذهبوا لتحديد مكان آخر للتصويب وعندما اقترب أحد الزملاء من اللغم انفجر وجلس نحو تسعة أشهر في المستشفى إلى أن تعافى ولله الحمد. * كم عاماً جلستم في هذا العمل؟ - جلسنا ثلاث سنوات ونحن في حرب الألغام في المسح لأنهم ألقوا كل أنواع الألغام على غير هداية، فمنها الطافي ومنها المغمور، وكانت بالنسبة لنا خبرة ليس بعدها خبرة، وهي أنك تعمل وأنت لا تعرف أين الألغام وكنت وقتها ملازماً أول. * وبعد العمل في حرب الألغام بالمنطقة الشرقية؟ - بعد العمل في المنطقة الشرقية نقلت من هذه الكاسحة إلى المنطقة الغربية، حيث تم تعييني في سفينة من أكبر السفن وكانوا يعطونا شهادة اسمها (شهادة الإبحار في أعالي البحار)، وكان اللواء شامي الظاهري هو قائد الوحدات العائمة، وقائد سفينة (المدينة)، فقالوا لي: اذهب ووقع الشهادات من عنده لأنه يحبك وكان له رهبة، فذهبت له وعندما دخلت عليه قلت في قرارة نفسي: سبحان الله، كيف أصبح هذا الرجل قائداً؟ ووقعت الشهادات من عنده وذهبت، ثم دارت الأيام وأصبحت أنا بفضل الله وكرمه وتوفيقه قائد هذه السفينة، وجلست على نفس الكرسي الذي كان يجلس عليه، فأخذت الشهادة ثم تم نقلي إلى جدة على سفينة إمداد، وعندما دخلت السفينة أعطوني غرفة خاصة، مع أنه كان هناك ستة أشخاص في غرفة وقالوا لي: عندك نوبة منا للساعة الفلانية لكني نمت من شدة التعب نوماً عميقاً دون أن أعلم عن المناوبة، ولم أسمع أصوات أمواج البحار بينما كنت أشاهد زملاء يُصابون بالدوار والاستفراغ، فكنت أقول لهم تعالوا اركبوا معنا في الكاسحة لتشاهدوا الفرق وكان عليها طائرتان. * ماذا كانت طبيعة عملك في هذه السفينة؟ - كنت ضابط اتصالات، ثم ضابط عمليات، ثم قالوا هذه سفينة التموين ونحن سننتقل على سفينة مقاتلة لأن لديك خبرة كبيرة، وهذه ليس فيها غير التموين، فنقلوني على سفينة مقاتلة اسمها (الهفوف) عملت فيها مساعداً لقائد السفينة، وقبل أن أعمل في هذه السفينة كان لدي صديق يعمل في سفينة أخرى اسمها (المدينة) اسمه أسامة أبو بكر نوح، قلت له: أريد أن أعمل معكم لمدة أيام لأتعرف على العمل قبل أن أعمل مساعد قائد سفينة، فوافق وعملت معهم وأطلعني في البداية على الخرائط، وأصبحت أعرف المداخل والمخارج وكل المستويات. بعدها انتقلت إلى سفينتي (الهفوف) وكان قائدها (فهيد العفنان) وأصبحت وقتها رائداً، وقالوا لي: قائد السفينة يريد أن يأخذ إجازة ونريد منك أن تكون قائد السفينة مكانه فأصبحت أخرج بالسفينة وأذهب وأعود بها لأنها كانت فرصة لي لأكتسب الخبرة، وأنجزت عليها مهمات، وبعدها قالوا لي: أنت الآن مؤهل لأن تصبح قائد سفينة. * وهل أصبحت قائد سفينة بالفعل؟ - نعم عدت قائداً لسفينة (المدينة)، وأبحرت بها وذهبنا بها إلى الأردن، وكنت أشجع الشباب وأعطيهم الفرصة لقيادة السفينة، وعندما دخلنا الأردن كان يقودها الضابط قاسم الحربي - رحمه الله - فجاء الربان الأردني يريد أن يقودها فقلت له: هذه سفينة حربية لا نريدك تقترب منها، وكان وقتها نقيباً ماهراً أدخل السفينة بين سفينتين بكل دقة ومهارة دون أي تدخل وسط إعجاب الجميع، وعملنا لهم خطة إلكترونية. * وبعد العمل قائداً للسفينة؟ - بعدها عُيِّنتُ في مركز القيادة والسيطرة الذي استلمته وكنت وقتها عقيداً، وعندما كنت رائداً ذهبت للرياض وحصلت على الماجستير من كلية القيادة والأركان، وعندما كنت نقيباً ذهبت لأمريكا وأخذت دورة عمليات، وفي بنجلادش أخذت دورة الدفاع الوطني وهي دورة مشتركة بين مدنيين وعسكريين برتبة وكلاء وزارات وسفراء وكانت حول كيفية إدارة وتسخير قدرات الدولة في حالة الأزمات، وآخر رتبة لي كانت عميداً في ركن عمليات قاعدة الملك فيصل البحرية، وعندما كنت عقيداً ذهبت لجازان وعملت ضابط عمليات، حيث عدلنا وطورنا في الإجراءات هناك وبعدها تقاعدت بعد أن أكملت عدد سنوات الخدمة كاملة. أمين عام هيئة الاغاثة الإسلامية * وماذا عملت بعد التقاعد؟ - في خلال الشهور الثلاثة الأولى من تقاعدي كنت أرتب أموري فوردني اتصال من الزميل عمر العامري وهو عميد بحري، وهو الذي عرفني على الأستاذ إحسان طيب الأمين العام لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، وقال لي: هناك عمل لدينا لكن سيكون في أفغانستان، فسألتهم: هل هو بمعرفة الجهات المعنية بالدولة؟ قالوا: نعم، ويكون بموافقة وزارة الخارجية، وعندما تأكدت أنه من وزارة الخارجية اطمأن قلبي لأنني سأتعامل فيها مع منطقة حرجة فذهبت وعملت مديراً لمكتب هيئة الإغاثة في أفغانستان لمدة عامين، ثم كُلِّفتُ مديراً لمكتب الهيئة ببنجلادش، وفي الوقت نفسه كُلِّفت ببعض المهام في نيبال. * وكيف أصبحت أميناً عاماً لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية بعد أن كنت مديراً لمكتبها في أفغانستان؟ - قبل موسم حج العام 1437ه ذهبت لأسلم وأهنئ معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الجديد، فطلب مني أن أداوم يومياً في مكة، واجتمعت به بعدها في أكثر من مكان في الداخل والخارج، وأعجبت بعلمه وتواضعه، وبعد انتهاء فترة تكليف سعادة الأستاذ إحسان بن صالح طيب الأمين العام السابق للهيئة وردني اتصال من الرابطة يفيدني بأنه تم ترشيحي لأن أكون الأمين العام لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، فذهبت لمكتب معالي الأمين العام بالرابطة لاستكمال إجراءات التعيين، وأخذت خطاباً رسميًّا بذلك، وذهبت به لرئيسي الأمين العام للهيئة السابق الأستاذ إحسان بن صالح طيب، وبدأت عملية المباشرة بكل يسر وسلاسة، وأنا ما زلت أحترم هذا الرجل إلى اليوم؛ لأني وجدت فيه قمة الأدب وحسن التعامل ولم أجد منه إلا الخير. * ماذا قدمت للهيئة كأمين عام لها؟ - اجتهدت أول الأمر في معرفة المرحلة الحالية التي تمر بها الهيئة وتقييمها لتحديد نقاط القوة والضعف لأستكمل ما بدأه الأمناء العامون السابقون، ثم بدأت في تحسين الملاحظات والتطوير وتقوية نقاط الضعف، واستكملت الجهود التطويرية التي كانت قائمة في الهيئة وفق دراسة الوضع الحالي والتطلعات التي تسير عليها الخطة الإستراتيجية للهيئة، وقد أبرمت الهيئة اتفاقية مع شركة الراجحي الإنسانية لتمويل وإدارة مشروع تطوير الهيئة في جميع جوانب أعمالها خاصة نظام الربط الإلكتروني (الأتمتة) والحوكمة، وتهدف الهيئة من ذلك إلى تميُّز أعمالها وجودة الأداء، وتطوير أعمالها لتحسين المخرجات، والارتقاء بها قانونيًّا وماليًّا وتنظيميًّا وأثراً، ولرفع كفاءتها وتمكينها من تقديم خدماتها وفق الضوابط الشرعية، والأنظمة الرسمية والمعايير العالمية، واعتنيت أيضاً بجانب التأهيل والتدريب وتعيين الكفاءات الوطنية المؤهلة، وأبرمت اتفاقية بينها وبين مركز الاستشارات (كن سعيداً)، وذلك لتطوير وتأهيل منسوبي الهيئة، وتقديم الاستشارات الإدارية بالتنسيق مع مركز إغاثة للدراسات والاستشارات، مع البحث والدخول في الاستثمار الصناعي من خلال الشراكة مع الشركات الصناعية، وعملاً بتوجيهات معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي فإن الهيئة تسعى قُدُماً لأن تكون رؤيتها متواكبة مع رؤية المملكة العربية السعودية (2030)، وتحقيق الطموح الذي يستشرف له معاليه لتكون الهيئة ضمن مصاف كبرى المنظمات الإنسانية وفق المعايير العالمية. * هل صحيح أن هيئتكم هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية كانت الهيئة الوحيدة التي تقدم المساعدات للمتضررين من الزلزال الذي حصل مؤخراً في النيبال؟ - نعم صحيح كنا الوحيدين في البداية، ثم جاءت بعدنا الهيئات الأخرى، وكنا نوزع الإغاثة المتضررين، وذهبنا إلى وسط الجبال لمساعدتهم، وأخذنا جولة لمشاهدة آثار الزلزال والدمار الذي خلفه، ثم قابلت رئيس الوزراء النيبالي في منزله وتشاورنا في شأن الأعمال الإنسانية التي تقدمها الهيئة، وأوصاني بالاهتمام بمشروع ابنة ملك مملكة النيبال؛ لأن لها خطة ومشروعاً لتقديم المساعدات للمتضررين. وقد أشرفت بنفسي على الخطة إلى أن أنجزت المهمة والتقيت فور وصولي هناك برئيس الوزراء ووزير الداخلية وهما بوذيان واستغربا عندما أوصاني بابنة الملك وقال لي: إنهم بوذيون، فأوضحت له أننا نقدم المساعدات لكل المتضررين دون التمييز بين عرق أو لون، وأن الإسلام أمرنا بالإحسان، وأن في كل كبد رطبة أجراً.

مشاركة :