عزام حدبا: طموح المفكر اكتشاف نظرية موحَّدة لما يجري في الكون روحياً وفكرياً

  • 11/26/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بين الأدب والدين، يتنقّل قلم المهندس والأستاذ الجامعي عزام حدبا مسطراً تجربته في الحياة ونظرته إلى الحرب التي عصفت بلبنان وإلى كل ما يشوب المجتمعات العربية من أزمات، فضلاً عن غوصه في قضايا الدين والقرآن والأدب الساخر وأدب الناشئة، «الجريدة» التقت حدبا وكان معه الحوار التالي: ما الذي يحرِّك فيك ملكة الكتابة في هذا النوع أو ذاك؟ الكتابة عندي مرتبطة بالتفكير وحب المعرفة. هي أداة ووسيلة وليست غاية أو هدفاً. لا أؤمن بمنهج الفن للفن إنما دائماً أؤمن بالرسالة التي يحملها أي عمل أدبي أو فكري أو فني. من هنا، لا يتناقض التعليم والهندسة مع الكتابة فأنا إنسان قبل أن أكون مهندساً. علمتني الهندسة المنطق والتفكير العلمي، وشكلت رافداً أساسياً لأفكاري وكتاباتي، وخلفية أتكئ عليها في تحليلي الأحداث من حوالي، مهما كانت طبيعتها: فكرية أو اجتماعية وإنسانية. في رواياتك تنتهج نهج الرومانسية وتدعو إلى القيم وتوظف الشخصيات لخدمة المبادئ والأخلاق، فهل تخشى على القيم في هذا الزمن الاستهلاكي؟ يقول القرآن الكريم: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، انطلاقاً من هذه المقولة لا يشغل بالي موضوع إصلاح العالم، بل يكفيني أن يستفيد شخص واحد مما أكتبه. بل أكثر من ذلك، يكفيني أن أكون أنا هذا الشخص. أكتب كي أستفيد وأرسخ أفكاري وأنظمها على الورق، بدل أن تبقى مشتتة في سحاب الخيال. ولا أصنف هذا الزمن أصلاً على أنه أسوأ مما سبقه. لطالما عاشت البشرية في منطق شريعة الغاب، سابقاً والآن، الذي يختلف هو نوعية الفساد. كما تفضلت اليوم الفساد يحمل طابعاً استهلاكياً. سابقاً كان الفساد يحمل طبعة عدوانية كما رأينا في الحروب العالمية. أما القيم فلا أخاف عليها ولا يخاف عليها أحد. القيم موجودة شئنا أم أبينا. راسخة في أعماق أنفسنا، لا تتزعزع ولا تهتز. كل ما علينا فعله أن نمسح عنها الغبار من وقت إلى آخر كي تنجلي لنا. تمزج رواياتك بين الخيال والواقع لترسم مشاهد من المجتمع اللبناني في مراحل مهمة من تاريخه، لا سيما الحرب. صحيح. كتبت رواية «عرسنا في الجنة» قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ويومها كانت الأجواء مشحونة والبلد على كف عفريت. كتبتها كرسالة تحذير للبنانين ألا يعيدوا تكرار أخطاء الحرب الأهلية. وللأسف، مراهنتي على وعي الشعوب لم تكن في محلها، فقد أثبتت لي الأيام أن أهم درس يعلمنا إياه التاريخ ألا أحد يتعلم من التاريخ، وكلنا نعيد اجترار أخطاء الماضي. صحيح أن الحرب الأهلية لم تقع من جديد، لكن أشكّ في أن يكون المانع ذاتياً أو ناتجاً عن وعي الشعب. السبب الرئيس برأيي أن الخارج ليس بوارد أن يشعل حرباً جديدة في منطقة مشتعلة أصلا. رصد وارتقاء هل تهدف إلى توثيق اجتماعي لمرحلة الحرب اللبنانية من خلال الأحداث والشخصيات في الرواية؟ هدفي من الرواية يلخصه ما ورد في المقدمة، واليوم وبعد 25 سنة من هذا الحدث الأليم أتساءل، هل انتهت الحرب حقاً؟ أم أنها ما زالت تشتعل تحت الرماد وبحاجة إلى من يطلق الشرارة الأولى كي تنفجر من جديد؟ أحياناً، اطمئن وأقول إن من المستحيلات أن تعود الحرب. لقد سئمها الناس وأدركوا عبثيتها ولكن كلما تذكرت أن المسؤولين الذين يحكمون البلد الآن هم أنفسهم قادة الميليشات وسادة الحرب، تشاءمت، فصكوكهم مع الشيطان لم تنته صلاحيتها.. ولا أدري متى سيطالبهم بالدين. وها إني أمسكت قلمي اليوم محاولاً أن أسترجع بذكرياتي أحداثاً أليمة عايشتها بنفسي. لن أدعي أني سأؤرخ الحرب فالصورة أكبر بكثير من أن أحيط بها. سأكتفي بأن أنظر إلى انعكاس صورة الحرب في عيني أبطال هذه القصة. بالنسبة إلى كثر كان هؤلاء الأبطال مجرد أرقام أضيفت إلى قافلة طويلة من ضحايا الحرب. أما بالنسبة إلي، أنا الذي عايشتهم بنفسي فقد كانوا أبطالاً أسطوريين صبغت الحرب حياتهم بالدم والدموع. برأيك هل مهمة الأدب رصد الواقع وتوثيقه؟ مهمة الأدب برأيي الارتقاء بالناس. المهم في القصة هي العبرة التي تحملها. لو قلت لك مثلاً: إياك والاغترار بالمظاهر... ستنسين هذه العبرة خلال أيام. أما إن وضعتها لك في قالب قصصي مثل قصة «حصان طروادة» فمن الممكن أن تصمد هذه القصة آلاف السنين. من منا لا يعرف قصة «حصان طروادة» اليوم؟ للمفارقة، العبرة بالنسبة إلى القصة هي الجندي الخفي الذي يخفيه الكاتب في بطن القصة (التي تؤدي دور الحصان) كي يخترق به جدران الجهل في عقولنا وأسوار القناعات المسبقة التي نعجز عن اختراقها بالوعظ المباشر. ماذا عن الخيال هل له الدور الأكبر؟ اسمحي لي أن أقول لك إني لا أؤمن بوجود واقع أصلاً. فحتى ما نظنه واقعاً هو نسختنا الشخصية من الواقع. بالتالي فيه نصيب كبير من الخيال والتحوير. الخيال هو الأصل في الأدب ومن دونه لا يكون الأدب أدباً إنما مقالاً علمياً جافاً. لذلك حينما نقول هذه القصة واقعية تكون في الحقيقة خيالاً إنما خيال واقعي مألوف... والتمييز في الحقيقة هو بين الخيال الواقعي والخيال المجنّح كما نراه في قصص الخيال العلمي، وليس بين الواقع والخيال. اختراق العقل الواعي يلاحظ أن بعض مؤلفاتك يتناول قضايا إسلامية إنما بطريقة مبسطة ومختصرة، إلى من تتوجه من خلالها؟ حقيقة يظنّ البعض أنها تتوجه نحو الناشئة، لكن هذا ليس بدقيق. التبسيط والتيسير والاختصار ليس معناها التوجه حصراً نحو الصغار، بل إلى كل شريحة لا تملك وقتاً وهمة لقراءة مقالات مطولة فيها كثير من التفنن اللفظي وقليل من المحتوى الدسم. ثم في الأصل لا أؤمن بالتصنيفات الجنسية (أي مجلات مخصصة للنساء) والعمرية، فأنا في هذه السن، أحب أفلام ديزني للصغار بل «توم وجيري» أيضاً. في المقابل، اطلعت وأنا في الثانية عشرة من عمري على أهم الأعمال الأدبية والروائية في العالم. بالتالي، يجب ألا نقتل هذا الطفل البريء الذي يعيش فينا من جهة، أو أن نسيء تقدير ذكاء الرجل الواعي الذي يعيش في أطفالنا أو نخنق إبداعه. في سلسلة «مهمة في عالم صرصوريان»، تنتهج نوع الرواية الساخرة، فهل يمكن التعبير بجرأة أكثر في هذا النوع حول أمور قد يتعذر التعبير عنها في الرواية الاجتماعية؟ من المعروف تاريخياً أنه في ظل الأنظمة الجائرة التي تقيد فيها الحريات، يلجأ الكاتب إلى الأسلوب الرمزي في النقد. لذلك جاد علينا التاريخ بقصص مثل «كليلة ودمنة» وأساطير لافونتين الهادفة إلى انتقاد السلطة الحاكمة بطريقة رمزية. غير أن ثمة هدفاً آخر لهذا النوع من الكتابة وهو اختراق العقل الواعي كما بينا في جواب سابق. فحينما كتب جورج أورويل «مزرعة الحيوان» لانتقاد ممارسات الأنظمة الشيوعية الشمولية، بالتأكيد لم يفعل ذلك خوفاً منهم، فهو لم يكن يقيم في هذه الدول. إنما أراد أن يخترق العقل الواعي باستعمال رموز مجازية تخرق هذا الجدار من ناحية، وتحطم هذا النموذج بالسخرية منه من ناحية أخرى. فالسخرية سلاح يعتقد به في مواجهة الأفكار البالية. «كل الناس متساوون ولكن بعضهم أكثر مساواة من بعض»، كيف للنظام الشمولي أن يدّعي المساواة في مواجهة عبارة كهذه تحطم ادعاءاته الزائفة؟ وقد سبقه موليير باستعمال أسلوب التحطيم هذا في مسرحية «المتحذلقات السخيفات» التي تهكم فيها على طائفة من النساء الأرستقراطيات، وقضى كلياً على هذه الظاهرة بعدما حوّلها من مصدر فخر لصاحبها إلى مصدر إحراج له وتندّر لغيره. اهتمامات متعددة رداً على السؤال حول جديده يوضح المهندس عزام حدبا: «أنا من النوع الذي يعمل على مشاريع عدة في الوقت نفسه، ولا ألزم نفسي بمشروع واحد أضع فيه طاقتي كلها. والمشروع الذي يخرج إلى النور أولاً هو الذي أعتبر أني لم أعد أملك ما أضيفه إليه. لكن عموماً، أنا مهتم بموضوع المعضلات الأخلاقية وآلية اتخاذ القرار، وبمحاولة سبر القوانين الفكرية التي تحكم عالمنا. فكما يطمح الفيزيائي إلى اكتشاف نظرية كل شيء، نظرية تجمع وتفسر الظواهر والقوى الفيزيائية، يطمح المفكر إلى اكتشاف نظرية موحدة تفسر كل ما يجري في هذا الكون من الناحيتين الروحية والفكرية». يضيف: «ثمة غالباً تطابق وانعكاس للقوانين في هذين المجالين. حينما نتحدث عن الفعل وردة الفعل، أو عن نسبية الزمان والمكان، أو عن قانون الضغط، يولد الانفجار أو تأثير الدومينو. هذه القوانين كافة هي قوانين مشتركة بين العلم والفكر. هنا تظهر لديّ مجدداً ثنائية المهندس والمفكر. ملاحظة، حينما أصف نفسي بمفكر لا أقصد لقباً أتفاخر به بل توصيفاً لممارسة فعل التفكر والتفكير. فكلنا في الحقيقة مفكرون. غير أن بعضنا لا يريد أن يتعب دماغه».

مشاركة :