أمر واحد يبدو محسوماً هذه الأيام هو أنه ما عاد ثمة مجال لـ«الكلام المزدوج»، ولا لتمرير شعارات لا علاقة لها بالواقع على الأرض. إننا أمام استحقاقات خطيرة في غير مكان من عالمنا العربي. وأزعم أن العقلاء باتوا على بيّنة من التحدّيات ولذا ما عادوا ينخدعون بسهولة.«كيانات ما بعد 1920»، و«الإسلام السياسي بعد 1979» (بوجهيه الشيعي والسنّي)، والعلاقة بين الدولة والسلاح خارجها وخارج مؤسساتها، وطبعاً شعارات التحرير والثورة من مختلف الأصناف... كلها باتت على المحكّ.الزميل أمير طاهري أماط اللثام، بالأمس في «الشرق الأوسط»، عن جانب مهم من الأزمات التي تتصدّر التحديات الإقليمية، لعلها تُختصر جميعاً بظاهرة الدور الإيراني الخميني - الخامنئي على امتداد العالم العربي. وكاتب هذه السطور عاش فترة 1982، أيام تأسيس ما بات يُعرف بـ«حزب الله» في «مطبخ» السفارة الإيرانية بالعاصمة السورية دمشق على يد - السفير يومذاك - علي أكبر محتشمي... قبل أن يعود إلى طهران ليصبح وزيراً للداخلية. وقبل أن تتحول دمشق حافظ الأسد إلى «كفيل» و«حضن» له في المنطقة.الزميل طاهري أصاب في تذكير مَن لا يتذكرون، أو ما كانوا شهوداً على تلك الحقبة، بأن الحزب الذي يصوّر نفسه تجسيداً لـ«المقاومة» ضد إسرائيل وأميركا كان في واقع الأمر حركة مذهبية تابعة لملالي طهران مهمتها الأولى ليست مقاومة إسرائيل، بل التصدّي للمقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل.كان قطاع من البيئة الشيعية في جنوب لبنان، يومذاك، قد أخذ يضيق ذرعاً بعمليات الكفاح المسلح الفلسطيني من المنطقة التي وافقت الدولة اللبنانية على تركها للمقاومة الفلسطينية، وعُرفت في حينه بـ«فتح لاند». وكانت إسرائيل تتعمد الرد على عمليات الكفاح المسلح الفلسطيني بقصف قرى الجنوب لإثارة نقمة شعبية على الفلسطينيين. ومن جانب آخر، كان تقاطع المصالح الضمني بين تل أبيب وطهران يقضي بضرب قوى اليسار والقوى القومية المنضوية في «الحركة الوطنية اللبنانية» والمتضامنة مع الفلسطينيين... وفي حينه كان الشيعة يشكلون نسبة عالية من حركييها.والحقيقة، أن إيران كانت تعارض انجذاب الشباب والمثقفين الشيعة، في جنوب لبنان خصوصاً، إلى الأحزاب القومية واليسارية منذ أيام الشاه. واستمر تقاطع المصالح الإيرانية الإسرائيلية بعد ثورة الخميني، إذ بينما كانت تل أبيب - إبان الحرب الباردة - معادية لليسار وحريصة على تجريد الفلسطينيين من حاضنتهم اللبنانية عملت الثورة الخمينية على الاستثمار في المذهبية وتعزيزها. وكان هذا في صميم المصالح الاستراتيجية لإسرائيل المستفيدة من التناقضات الدينية والمذهبية في الأقطار العربية المحيطة، كونها المقدمة البديهية والحتمية للانقسام والتناحر وتحالف الأقليات.أصلاً بدأ اللبنانيون المشاركة في المقاومة ضد إسرائيل بعد «نكسة يونيو (حزيران)» في السنة التالية للنكسة، عندما استشهد خليل عز الدين الجمل عام 1968. وبعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 أطلقت شرارة المقاومة أحزاب علمانية قومية ويسارية بينها الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني.شباب هذه الأحزاب قاوموا من أجل التحرير وفلسطين ولم يضيّعوا البوصلة الجغرافية، ولا آمنوا بالتبعية لمشروع مذهبي إقليمي غير عربي مع أن بعضهم من الشيعة (مثل سناء محيدلي وأنور ياسين). لقد كانت أولويات التحرير عند هؤلاء غير أولويات «المرشد الأعلى» في طهران. وما ناضلوا وضحوا من أجل استبدال «احتلال» بـ«احتلال».واليوم تعرف تل أبيب وواشنطن الحقيقة... عندما يزايد قادة الحرس الثوري الإيراني في موضوع «مسح إسرائيل عن الوجود»، وتتردد أصداء تهديداتهم ومفاخراتهم في الضاحية الجنوبية لبيروت وجبال صعدة حجة في اليمن، ناهيك من معسكرات الحشد الشعبي في العراق ووسائل إعلام نظام دمشق.إنهما تعرفان الحقيقة جيداً. ولا سيما أن القوى التي تشكل الحشد الشعبي كانت المستفيد الأول من الغزو الأميركي للعراق، كما أن «الخط الأزرق» الحدودي مع إسرائيل في جنوب لبنان أقرب بكثير لمعاقل حزب الله اللبناني من حلب والبوكمال ودير الزور. ومع ذلك، نسي «حزب الله» مزارع شبعا «المحتلة» التي ظل يبرّر باحتلالها احتفاظه بسلاحه، كما نسي حكاية «شهود الزور» التي استخدمها لإسقاط حكومة سعد الحريري في مطلع عام 2011.ثم إن سلاح «حزب الله»، الذي احتفظ به وحده من دون باقي الأحزاب اللبنانية بعد «اتفاق الطائف» (1989) بذريعة تحرير الجنوب، حوّل إلى الداخل اللبناني عام 2006، ثم داخل سوريا منذ انتفاضة الشعب السوري. وبعدها وزّع «خدماته» التفجيرية إلى اليمن والبحرين وما وراء البحار. وإن ننسى لا يجوز أن ننسى قول أمين عام الحزب علناً بأن «أشرف شيء وأفضل شيء وأعظم شيء» فعله في حياته هو خطابه (دفاعاً عن الحركة الحوثية) في ثاني أيام «عاصفة الحزم»، مضيفاً أنه يشعر «أن هذا هو الجهاد الحقيقي!».هذا الكلام ينسف أي صدقية لأولوية مقاومة إسرائيل ومحاربة أميركا، ويؤكد أن المهمة الموكلة لحزب الله وغيره من الميليشيات المذهبية التي شكلتها وترعاها وتأمرها طهران في العالم العربي... ليست سوى تنفيذ مشروع إيران الإقليمي.هذا المشروع، وفق الحسابات الاستراتيجية، أمامه احتمالان: الأول، أن ينجح مرحلياً، فتهيمن إيران على منطقة شاسعة غالبية سكانها من غير الشيعة وغير الفرس، ما سيؤدي لاحقاً إلى فتن وحروب أهلية لا تنتهي. والثاني أن يفشل، فتلجأ إيران إلى بدائل تدميرية أخرى... إلا إذا سقط نظامها وتغيّرت بنيته «الثيو - عسكرية».في الحالتين، لا الغرب خاسر ولا إسرائيل خاسرة.الحقيقة أن نظام طهران أدى، بنهجه الطائفي وتدخلاته العسكرية، «خدمات» لا تقدّر بثمن للقوى التي يزعم أنه يعاديها. وهو، سواءً عبر استثارته أو رعايته جماعات سنّية متشدّدة، خلق ظاهرة إرهاب عالمية غذت قوى اليمين في عموم دول الغرب. أما فيما يخص تحرير فلسطين، فلقد أدى دعمه تيارات في حركة حماس و«الجهاد الإسلامي» إلى ضرب وحدة الصف الفلسطيني، وتعزيز قوة الليكود والأحزاب الإسرائيلية المتطرّفة المصرّة على توسيع الاستيطان، ورفض أي حوار من أجل السلام.
مشاركة :