سيفرح البعض فرحاً عظيماً بإدانة مجرم الحرب الصربي راتكو ملاديتش في محكمة الهايغ بوصف الإدانة دالّة على إدانة أمثاله من مجرمي حرب النظام السوري. وسيأملون بأن يكون السجن المؤبّد من نصيب أولئك الذين فتكوا بالشعب السوري. من جرائم ملاديتش هذا محاصرة سراييفو، الأمر الذي تسبب بمقتل 10 آلاف من سكانها. وأبشع جرائمه مجزرة سريبرينيكا التي حاول تطهيرها عرقياً من المسلمين البوسنيين ومن الكِروات، الأمر الذي اعتبرته المحكمة في الهايغ جريمة إبادة. في اعتقادي أن إدانة ملاديتش تشكّل نهاية «مرحلة دولية» وجزئية من نهايات حقبة العالم كما صاغته الحرب العالمية الثانية ومفاعيلها، لا سيما هول جرائمها والمحرقة النازية في رأسها. ومن هنا شكّي في أن تكون بطاقة حمراء في وجه الجزّارين على الأرض السورية تمهيداً لمحاكمتهم. إدانة الجزار الصربي والنطق بالحكم عليه في محكمة دولية يستند إلى قانون دولي وأعراف ومنظومة قِيَمية وترتيبات اتّفقت عليها الأمم والدول كجزء من دروس المحرقة والحرب. وهي منظومة قانونية سياسية دولية عابرة للحدود والقارات نصّت مجتمعة وبواسطة آليات مختلفة ومتعددة على ضرورة منع الجرائم ضد الإنسانية كما شهدها العالم في الحرب العالمية الثانية. على هذا الأساس تشكّل القانون الدولي الخاص بمنع جرائم الحرب ونظام أساس مجلس الأمن وإعماله لمنع جرائم ضد الإنسانية. المُحاكمة الأخيرة في الهايغ تأتي على هذا الأساس واستناداً إلى «النصوص المؤسّسة» للقانون الدولي المتصل بالحقبة المُشار إليها. ونحسبها تلك الممتدّة بين 1945 و2000. وهي حقبة انتهت بدءاً بانتهاء الحرب الباردة وتبدّدت بعد وضوح العولمة وبداية حِقبة جديدة من ترتيب المصالح الكونية للدول الرائدة إقليمياً وعالمياً إثر انهيار المنظومة التي امتدت طيلة النصف الثاني من القرن الفائت. والحقبة الجديدة هنا لا تعني الزمن بقدر ما تعني نظاماً وموازين قوى ترسم خرائط الثروة ومعاني القانون والمصالح من جديد. وفي الطريق إلى ذلك تحدّد معنى المجزرة وجريمة الحرب والجريمة ضد الإنسانية. وهي تعريفات لا تتطابق بالضرورة مع تعريفات الحقبة التي سبقتها. أو على الأدقّ، فإن الحقبة الحالية غير معنية أبداً بتطبيق أحكام الحقبة السابقة حتى في مثل هذه الجرائم المروّعة. ويصير هذا حقيقة ناجزة عندما تقع الجريمة خارج الأرض الأوروبية- الشرق الأوسط مثلاً! أما رواندا- الأفريقية فهي، أيضاً، تُحسب في اعتقادي على الحقبة السابقة ومفاعيلها ولأن الأمم المتحدة حضرت هناك كجهد دولي لوقف الإبادة وكجيش أممي فعلي على الأرض. لأن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية حصلت على الأرض الأوروبية إبان الحرب العالمية الثانية- غرب الأورال- فإن هذه المناطق بشعوبها ودولها ظلّت أكثر حساسية وقابلية لرفض تكرارها وتطبيق آليات القانون الدولي المتصلة بها. في هذا الإطار جرت محاكمات مجرمي الحرب في المسألة اليوغوسلافية وصولاً إلى ملاديتش. إذا نظرنا إلى مصير المحكمة الدولية بخصوص جريمة اغتيال رفيق الحريري ومآلاتها سيتعزّز لدينا الاعتقاد أن ما حصل في الهايغ قبل أيام لن ينسحب بالضرورة على سورية والعراق وليبيا ولبنان- كما إنه لم ينسحب على أفغانستان ولا على الشيشان مثلا. في هذه الحالات كلها شهدنا جرائم حرب متنوعة كالتطهير العرقي والإبادة وجرائم ضد المدنيين من تجويع وحصار حتى الموت. بل لا يزال المنفّذون وكذلك المسؤولون الحكوميون عن هذه الجرائم مكرّمين معزّزين وقد زادت شعبيتهم أو تعززت مكانتهم الدولية كلاعبين وكشرعيات دولانية! في حالة كهذه لن يكون من الواقعية السياسية أن نأمل بمحاكمة مجرمي الحرب في سورية وسواها أو في فلسطين. وهو ما نأمله نحن معشر الحقوقيين لا سيما المتخصصين منّا بحقوق الإنسان والقانون الدولي والجنائي منه. صحيح أننا نستند إلى أحكام القانون الدولي وتعريفاته لجرائم الحرب، أو إلى آليات جرى العمل بها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية- محاكمات نورنبرغ مثلاً- لكن موازين القوى اليوم ووِجهة السياسة الدولية مغايرة. فالعالم قد نسي دروس الحرب وفظائعها ومنغمس كلّياً في إنتاج نظامه الجديد. وفي حمأة ما يحصل يبدو النظام الدولي على مصالحه وتوازناته مستعداً لقبول جرائم الحرب أو الجرائم ضدّ الإنسانية كجزء من الترتيبات أو كضرورة لها. فلنحذر من المغالاة في المراهنة على محاكمة جزار سريبرينيكا، راتكو ملاديتش!
مشاركة :