استعادة البرامج والمشروعات الإمبريالية أو الكولونيالية ليس سلوكا استراتيجيا يتمتع بالكياسة؛ لأن الزمن لا يعود إلى الوراء كما في الستينات الميلادية وقبلها، وما تفعله دول المحاور المكشوفة لن يصل بها إلى نهاية طريق تحقق فيه أي طموحات على حساب دول أو مجتمعات وشعوب أخرى وقيادتها مثل القطيع، فقد تطور العصر وأصبحت الشعوب أكثر وعيا بمطلوباتها وقادرة على المحافظة على إرادتها الوطنية، وعدم السماح بسلبها لصالح آخرين كما في السابق، وإنما هي مصالح مشتركة ومتوازنة ومتزنة، تستمر برغبة الأطراف الدولية المتصالحة مع نفسها وبعضها. دول مثل روسيا وتركيا وإيران، ضيعت إمبراطوريات ولم يعد بإمكانها أن تعيد شيئا، ومن صالح العالم وخير البشرية أن تنكفئ على ذاتها الوطنية، وتطور نفسها دون أفكار توسعية، سواء كانت إقليمية أو دولية، ذلك حدث لبريطانيا التي أضاعت الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس، ولكنها بحركة التاريخ غابت وتوارت، ولم يعد بإمكانها أن تفعل شيئا، وليس هناك من قاسم مشترك بين هذه الدول الثلاث سوى ماض قديم غرب كشمس الغروب ودخل متاحف التاريخ، وإن كان ثمة شيء بينها فهو أنه تجمعها المصالح وتفرقها الطموحات. بين تركيا وروسيا رواسب تاريخية ليس متصورا القفز عليها، إذ يمكن تصور أن يحدث احتكاك في أي مرحلة تنافسية في أفكارهما التوسعية كما حدث بين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية آل رومانوف، وحين يتأسس الواقع على جذور من الصراع التاريخي، فلا بد وأن تحمل الجينات الوطنية مرارات لا تحتمل الازدحام في طريق ضيق من التنافس، فتركيا الإسلامية لا تتفق بداهة مع روسيا المسيحية، ومنهجها السياسي الحالي هو الذي أوصلها إلى خلاف بائن في المسألة السورية، فكلاهما على طرفي نقيض تتفتت عنده المصالح ويتوقف قطار الطموحات. وتركيا لا يمكن أن تتفق تماما مع روسيا لاعتبارات تتعلق بعضويتها في حلف الناتو، وارتباطها السياسي الكبير مع أميركا، ذلك يضعها فعليا في مواجهة وعدم تلاق إلا بالقدر الذي يمرر مصالح ظرفية، ولكل تطلعاته الإقليمية والدولية المتعارضة، رغم رجحان الميزان الوطني لصالح روسيا باعتبارها طرف دولي أقوى، وذلك يجعل تركيا باقية في الهامش الأوروبي والغربي، وبعيدة من أن تمثل ندا حقيقيا لروسيا. ذات الأمر ينطبق على علاقة إيران بروسيا، وهي وإن اتفقت في سورية وقضايا عسكرية أخرى، إلا أنها متباعدة أيضا من واقع المشاحنات التاريخية بينهما في آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين، فإيران تتمدد ثقافيا وسياسيا ودينيا هناك وهي منطقة نفوذ روسيا، وذلك يؤسس لتعارض طموحات ومصالح لا تجدي معه مساحيق التجميل في سورية والمفاعلات النووية وصفقات السلاح، وإذا كانت روسيا جدية في تطوير علاقاتها مع إيران كان بإمكانها أن تضيفها الى مجموعة "بريكس" لفك خناقها السياسي والاقتصادي، وذلك لم ولن يحدث؛ لأن الأخيرة ستدخل بكل إشكالاتها التي تتعارض مع روسيا، ولذلك فعلاقتهما بمثابة بيت من زجاج مهدد بالتكسر إلى فسيفساء ما لم يحافظ الطرفان على الحد الأدنى لعلاقاتهما وإبقائها في دوائر ضيقة، وإضفاء مسحة ديكور سياسي واقتصادي تجعل المساحات الصغيرة تبدو كبيرة. وبالنسبة لتركيا وإيران فهما على طرفي نقيض، فالأولى إسلامية سنية علمانية موالية للغرب ولاهثة بكل طاقتها السياسية لتبدو غربية في مظهرها الحضاري، وهي أيضا لها طموحاتها الإسلامية في لعب دور قوي كقوة إسلامية مؤثرة، وذلك يصطدم بإيران الشيعية المتفلتة من الغرب، التي تسخّر كل طاقتها من أجل نشر المذهب الشيعي في فضاء سنّي يقوّض أي طموحات لتركيا، وبالتالي فلا يتوقع أن يتفقا إلا في شريط اقتصادي ضيق يحقق مصالح متبادلة في إطار ظرفي أيضا. إذن فإن الثلاثي: الروسي التركي الإيراني، لا تجمعه إلا مصالح اقتصادية وسياسية متباينة، وفي العقل السياسي إرث توسعي يتم العمل له من تحت الطاولة الدبلوماسية والاستخباراتية، ولا يمكن أن تتفق هذه الدول بصورة استراتيجية، فهي كموقعها كل في زاوية لا تسمح باستمرار أي اتفاقيات بينها؛ لأنها تصبح معطلة لها كلما طال بها الزمن، والمفارقة أنها تصبح غير مخيفة إلا فيما يتعلق بمساع لنشر الفوضى في غيرها من الدول حتى تستمتع بالتفرج ورصد المعادلات وتفكيكها لصالحها، حينها تصبح مصدر خطر وقلق إقليمي ودولي مزعج، كما هو الآن في كثير من الأحداث، ويتطلب الحذر منها لأنها تظل دولا مشبوهة ومجروحة تفضّل انهيار الآخرين.
مشاركة :