أيام الجمعة والسبت والأحد الماضية، كانت ثلاثة أيام من الجمال والإبداع صنعها الشباب العاملون والمتطوعون في (إثراء)، في النسخة الثانية من نهائيات مسابقة (أقرأ)، وبحسب الأرقام التي أعلنتها أرامكو فإنه قد تقدم للمسابقة قرابة الستة آلاف مشارك من المراحل المتوسطة والثانوية والجامعية، من شتى مناطق المملكة، ومن خلال مراحل متعددة وصل ثمانية عشر مشاركا من الذكور والإناث إلى العروض النهائية، التي ختمت بعشرة فائزين. لا تزال الأرقام التي تصدرها الأمم المتحدة ومؤسسة الفكر العربي وغيرها من المؤسسات والمراكز الثقافية حول معدلات القراءة في العالم العربي مؤرقة لكل مهتم بالثقافة والمعرفة، ولست هنا بصدد ذكر هذه الأرقام المخيفة في سياق الاحتفاء بإحدى أهم المبادرات الثقافية في بلدنا، لكنني على الأقل أستطيع تأكيدها من خلال تدريسي بالجامعة، الرقم قد يقترب من الصفر في معدلات القراءة لدى الشباب، وأنا أتحدث عن طلبة يجلسون على مقاعد الدراسة الجامعية، وفي مدينة تعد من المراكز المهمة في وطننا. من ستة آلاف إلى أربعين مشاركا ومشاركة، انتقلوا إلى المرحلة قبل النهائية، حيث شاركوا ببرنامج مكثف لمدة أسبوعين، محاضرات وورش عمل وتفكير مستمر من أجل تطوير العروض النهائية لكل قارئ وقارئة، وسعدت جدا بأن كنت أحد المحاضرين في هذا البرنامج، تحدثت عن التأويل، وعن كونه بصمة شخصية لكل فرد، وفي أثناء المحاضرة عرجت سريعا على نظرية ميشيل فوكو التفكيكية، وكيف أنه لا يشتغل بتوصيف النصوص بقدر اشتغاله بمدى تأثير النصوص في كل زمان ومكان، فهو لا يبحث عن الحقيقة داخل النص، بل عن الحقيقة التي يشكلها النص، هو يبحث باختصار عن اشتغال النصوص في الثقافات، وبعد المحاضرة سألني أحد المشاركين من المرحلة الجامعية عن مدى قدرة باحث ما أن يحدد النصوص المركزية التي اشتغلت في ثقافة ما، وأنه مهما حاول جهده فللحدس هنا نصيب، هكذا بكل بساطة ويسر قال هذه الملاحظة، وكل مهتم بنظرية فوكو يدرك مدى أهمية هذه الملاحظة، ومدى براعة التقاطها من قبل شاب جامعي، ولا أخفي فرحي حين رأيته على منصة التتويج فائزا بأحد المراكز الأولى. حسب إحصائية نشرتها أرامكو عن المشاركين والمشاركات في المسابقة فإن نسبة الإناث كانت 75%، وهذا رقم شبيه وقريب من الفعاليات الثقافية في كثير من دول العالم العربي، نسبة مشاركة الإناث في الفعاليات الثقافية هي الأعلى حتى المرحلة الجامعية، وتبدأ بالتدني بعد ذلك، وتصبح فعاليتها محدودة بعد سنوات قليلة، ولعل أسباب ذلك معروفة، أو أنها يجب أن تعرف! المشاركات الأكثر كانت من المنطقتين الشرقية والغربية، تليهما المنطقة الوسطى، على حساب المناطق الأخرى، وهو ما يثبت أيضا معدلات الثقافة التي تنحاز للمراكز على حساب الأطراف، وللمدن الرئيسية على المدن الصغيرة. أكثر المشاركين والمشاركات كان دافعهم للقراءة دافعا داخليا، مثل (الإفادة، تعزيز الخيال، تطوير الذات، الدافع الديني، الهروب من الواقع)، كما أن أهم العوامل المحفزة للقراءة كان دعم الوالدين، إضافة إلى إهداء الكتب، مع انخفاض عوامل أخرى مثل المدرسة، وأندية القراءة، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمبادرات الثقافية. وملخص ذلك أن الدافع الداخلي والأسرة هما الأقوى بمقابل الضعف الشديد لدور المجتمع، فلا المدرسة ولا مصادر المعرفة التي لا وجود لها تقريبا، ولا المؤسسات الثقافية كالأندية الأدبية مثلا ولا حتى حلقات التحفيظ والأنشطة الطلابية ولا أندية القراءة القليلة المتناثرة هنا وهناك ولا الجامعات كانت تشكل دافعا حقيقيا للقراءة، وهذا خلل واضح. من السهل جدا أن تكتشف أن مدنا رئيسية تفتقر إلى مصادر المعرفة، من السهل أن تزور مكتبة إحدى المدارس لتعرف هل دورها تحبيب القراءة أم تنفير الطالب منها، في المنطقة الشرقية لا توجد مكتبات مهيأة ونظيفة وحديثة تجذب القراء لها، ولا توجد مقاهٍ كافية تحفز الشباب على الجلوس من أجل القراءة، ولا مبادرات ثقافية كافية أيضا، وحين نقول إن الدافع كان داخليا ويكاد يكون محصورا في العائلة، فهو يعني أن المجتمع غائب عن دوره. المبادرات القليلة جدا نسبة إلى عدد الشباب في وطننا، تعني أنه لا توجد مبادرات تقريبا، كل هذا الكلام الذي ذكرته مضمن بالشكر لأرامكو على أن قامت بهذه المبادرة الوطنية، ومضمن أيضا بأمنية مفادها أن تشكّل المسابقة استفزازا لبقية الشركات ورجال الأعمال لعمل مبادرات حقيقية مثلها، مبادرات تخلو من خطب التدشين وقص الشريط وصفحات الدعايات في الصحف، وتخلو من الكلمات الخطابية في الحفلات الختامية، وتنصب على الشباب، وتجعلهم النجوم، وتبني منهم روادا للمعرفة، تبدأ بهم وتنتهي إليهم، دون أن يقطف الثمرة أي سارق أو قاطع للطريق. مسابقة «أقرأ» تستحق الإشادة لكنها لا تكفي، هذا ملخص ما أردت قوله، مجتمعنا بحاجة إلى مشاريع تشاركية بين الدولة ورجال الأعمال ومؤسسات المجتمع المدني –على فرض وجودها-، وفي حال تعسر أو تعثر ذلك، فإنني أدعو بكل صراحة رجال الأعمال أن يزكوا أموالهم في مبادرات معرفية حقيقية، في مصادر للمعرفة تشكل دافعا مجتمعيا للشباب تجاه القراءة. النتيجة التي تخرج بها من هذه المسابقة أن الشباب يستحقون الأفضل، يستحقون مالا سخيا وإدارة جادة ذكية، تصمم البرامج وتنفذها من أجلهم بمهارة وأمانة، يكفيك أن تشاهد فيلم (قلم المرايا) الذي أنتجته «إثراء»، وعرضته في الحفل الختامي، لكاتب ومخرج وكادر أغلبهم سعوديون، لتعلم أننا نستحق أفضل مما هو موجود اليوم.
مشاركة :