يكاد لبنان واللبنانيون ينفردون في اعتماد مصطلح «سياسة النأي بالنفس» التي تفتقد إلى مرجعية قانونية وسياسية على حد سواء. فهذا المصطلح الذي بات اليوم شغل المسؤولين والسياسيين الشاغل بعد إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري تريّثه في تقديم استقالته، ينظر إليه على أنه خشبة خلاص التسوية السياسية وإعادة تعويم الحكومة إذا اتفق الأفرقاء اللبنانيون وعلى رأسهم «حزب الله» الالتزام بها، وإن كانت التجارب في هذا المجال خلال السنوات السابقة أثبتت فشلها مرات عدة.الحراك السياسي في هذا الإطار يبدو إيجابيا لغاية الآن، كما تعلن معظم الأطراف التي تتوقّع إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل بيان الاستقالة في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن وبغض النظر عن المخرج الذي سيتم التوافق عليه فإن «النأي بالنفس» وفق الصيغة اللبنانية المتداولة لا يفي بالغرض المطلوب قانونيا، إذا لم يترافق مع تفسير واضح يضع كل طرف أمام مسؤوليته. وهو ما يؤكد عليه وزير العدل السابق إبراهيم نجار، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أنه ليس لمصطلح النأي بالنفس أي مدلول قانوني، وهو «موقف اللاموقف»، وبالتالي ليس كافيا للإيفاء بغرض المطلب اللبناني إذا لم يترافق مع إضافة وتفسير واضح ينص على «عدم التدخل والانسحاب من النزاعات العربية».يذكر أن بداية التداول بمصطلح «النأي بالنفس» في لبنان كانت في عام 2012 بعد سنة واحدة على بدء الأزمة السورية حيث أصدرت «هيئة الحوار الوطني» ما عرف حينها بـ«إعلان بعبدا»، الذي نصّ في بنده الـ12 على «تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليميّة. ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة، بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم».وفي عام 2014 كان هذا التوجّه حاضرا في البيان الوزاري لحكومة الرئيس تمام سلام، عبر التأكيد على ما نص عليه «إعلان بعبدا»، لتعود حكومة الحريري الحالية وتؤكد في بيانها الوزاري العام الماضي على «الالتزام بخطاب قسم رئيس الجمهورية ميشال عون من أن لبنان السائر بين الألغام لا يزال بمنأى عن النار المشتعلة حوله في المنطقة بفضل وحدة موقف الشعب اللبناني وتمسّكه بسلمه الأهلي»، مؤكدة على «ضرورة الابتعاد عن الصراعات الخارجية واحترام ميثاق جامعة الدول العربية مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي، حفاظاً على الوطن ساحة سلام واستقرار وتلاق». وتوقف البيان عند القضية الفلسطينية بالتأكيد على حق تحرير الأرض.لكن ما كان على الورق في الاتفاقات المتتالية لم ينعكس عمليا على الأرض طوال السنوات الماضية، وفق ما يؤكد نجار وتثبته المواقف السياسية في أكثر من مناسبة، في الحكومات المتعاقبة منذ إعلان بعبدا. وكان إعلان «حزب الله» الواضح والصريح مشاركته في الحرب السورية عام 2013، حين دعا حينها أمينه العام حسن نصر الله إلى تحييد لبنان والاقتتال في سوريا، كما سجّلت أيضاً مواقف من قبل وزير الخارجية آنذاك عدنان منصور الذي دعا في اجتماع وزراء الخارجية العرب إلى «فك تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية»، ما استدعى انتقادات عدة ومواقف مؤكدة على بمخالفته للدستور وسياسة النأي بالنفس».واستمرت مشكلة تدخل «حزب الله» في الحرب السورية على حالها في حكومتي سلام والحريري الحالية.هذه الوقائع وغيرها، تؤكد، بحسب نجار، أن الدستور اللبناني يحتاج إلى إعادة نظر كما موضوع «الحيادية» التي يطالب بها البعض، معتبراً أن «الحياد في القانون الدولي هو حالة الدولة التي تقف باختيارها بعيدة عن النزاع بين دولتين وتحتفظ بعلاقاتها السلمية مع كل منهما، وبالتالي اعتماد هذا المصطلح الذي يتطلب حالة دائمة من السلم، مستحيل اليوم في ظل القضية الفلسطينية». ويرى نجار أن الحل اللبناني قد يكون بتحويل النأي بالنفس إلى مصطلح سياسي لبناني من دون أي مدلول قانوني، على غرار مصطلحات عدة تحولت إلى عرف، مع تشديده على أهمية إقرار الجميع وموافقته على أن دائرة معناه تتوسع لتشمل الانسحاب من النزاعات والصراعات العربية، وهو ما يرتبط بشكل أساسي بـ«حزب الله» الذي عليه تطبيقه عملياً فيما يتعلّق بتدخله بحروب اليمن والعراق وسوريا، بعد إقرار الجميع بأن قضية سلاحه غير موضوعة اليوم على طاولة البحث وهي ترتبط بالاستراتيجية الدفاعية اللبنانية.
مشاركة :