على الرغم من التحضيرات التي سبقت الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة لتحقيق تسوية في سوريا، فإن بدايتها المتعثرة أكدت التوقعات الواسعة بأنها ستنتهي مثل سابقاتها من دون تحقيق اختراق. فالمفاوضات اصطدمت حتى قبل أن تلتئم بـ«عقدة الأسد»؛ إذ أكدت المعارضة «أن الانتقال السياسي الذي يحقق رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية هو هدفنا»، بينما ردت دمشق بتأجيل وصول وفدها إلى جنيف يوماً واحداً لتضيق بذلك المساحة الزمنية المتاحة للمفاوضات.قد يكون هناك توافق دولي اليوم على ضرورة الحل السياسي في سوريا وإنهاء الحرب تمهيداً لعودة اللاجئين والبدء في مرحلة إعادة الإعمار، لكن لا يوجد اتفاق على كيفية تحقيق هذا الحل في ظل الرؤى المتباينة بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية. الأدهى من ذلك أن الشواهد تشير إلى سباق متوقع خلال الأشهر القليلة القادمة بين مسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة، وبين مسار سوتشي الذي ترعاه روسيا بمشاركة إيرانية تركية. فقد كان لافتاً أنه في الوقت الذي استضافت فيه الرياض الاجتماع الموسع للمعارضة السورية بحضور المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا وممثلين عن الدول الكبرى المعنية بالأزمة، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعقد قمة في سوتشي مع الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان، والإيراني حسن روحاني.اجتماع الرياض شدد على مسار جنيف، وكذلك على توحيد قوى المعارضة، وعلى أهمية توافقها على رؤية موحدة للحل ولمستقبل سوريا، وهو الأمر الذي اعتبره دي ميستورا ضرورياً ومهماً على أن يكون وفد المعارضة إلى جنيف قوياً وشاملاً الأطراف كافة الممثلة للشعب السوري، بحيث يكون قادراً على المرونة واتخاذ القرارات الصعبة وتبني حلول مبتكرة. أما اجتماع سوتشي فقد أكد دعم الأطراف المشاركة فيه للمبادرة الروسية الرامية لعقد مؤتمر «شامل» لحوار وطني سوري يبحث التسوية السياسية واعتماد دستور جديد «تجرى على أساسه انتخابات برعاية دولية». ولم ينس المشاركون في اجتماع سوتشي بالطبع الإشارة إلى جهودهم في عملية آستانة التي اعتبروا أنها «ساهمت في الحفاظ على وحدة سوريا»، وأدت إلى إنشاء مناطق خفض التصعيد والتهدئة.الواضح أن روسيا تريد الالتفاف على عملية جنيف، وترى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب مثل إدارة باراك أوباما السابقة غير مهتمة بالمسألة السورية إلا من منظور حرب الإرهاب، مع فارق أساسي وهو أن ترمب أكثر ميلاً للتفاهم مع روسيا من أوباما، وما دام أن الحرب ضد «داعش» تكاد تكون حسمت بعد أن خسر التنظيم كل مواقعه المهمة وانحصر وجوده في جيوب صغيرة متناثرة ومحاصرة، فإن سوريا تتراجع في سلم أولويات واشنطن المشغولة حالياً بالأزمة الكورية؛ مما يعطي فرصة لبوتين لكي يتحرك بحرية أكبر.روسيا تريد ضمان وجودها ودورها المستقبلي في سوريا؛ لذلك أعلنت بعد استقبال بوتين أخيراً للرئيس السوري بشار الأسد أن التنازلات مطلوبة من كل الأطراف، وذلك وسط تلميحات بأن موسكو لا تمانع في رحيل الأسد، لكن في مرحلة لاحقة وليس في بداية المرحلة الانتقالية. وتعتبر موسكو أن مصالحها تخدم أكثر بالتنسيق مع إيران، الداعم الأساسي الآخر لنظام الأسد، ومع تركيا الجار القوي الآخر الذي تهمه في المقام الأول المسألة الكردية، ولا يريد أن يرى كياناً كردياً بإدارة ذاتية في سوريا، ولا سيما بعد تجربة استفتاء الاستقلال في كردستان العراق.تعدد المسارات ليس في مصلحة الشعب السوري الذي ينتظر نهاية لمعاناته التي طالت؛ لذلك من المهم البحث في كيفية إعطاء دفعة قوية لمسار جنيف الذي يبقى حتى الآن هو المسار المعترف به دولياً. هذا الأمر يحتاج إلى مرونة وإلى حلول مبتكرة، خصوصاً من المعارضة التي لا يمكن أن تتجاهل المتغيرات العسكرية المتسارعة على الأرض، ولا حقيقة أن القوى الدولية تنظر إلى الأزمة من منظور حرب الإرهاب أولاً، وإعادة اللاجئين ثانياً، ووقف الحرب وإعادة الإعمار ثالثاً. فحلفاء الأسد يرون أن الوقت في صالحهم وكذلك الظروف الدولية، خصوصاً مع انكفاء أميركا وانشغال أوروبا بمشاكلها؛ لذلك نسمع إيران تتحدث الآن عن استعداد الحرس الثوري للعب دور فاعل في تحقيق وقف دائم لإطلاق النار في سوريا وفي إعادة الإعمار.في هذه النقطة الأخيرة يمكن القول إن معركة إعادة الإعمار المقبلة لا محالة، لن تقل أهمية عن معركة الحل السياسي، وعلى العرب المعنيين والمعارضة التركيز على كيفية التعامل مع المعركتين. فالأطراف المعنية بمستقبل سوريا ستجد الكثير من الدروس والعبر في تجربة العراق، سواء فيما يتعلق بالكيفية التي تمدد فيها النفوذ الإيراني، أو فيما يتعلق بعواقب غياب الحلول المبتكرة التي تتجاوز عقدة اجتثاث واستئصال النظام، من أجل وضع صيغة تضع أسس الاستقرار لمستقبل يستوعب كل مكونات المجتمع وكل القوى الموجودة فيه تحت مظلة نظام تعددي قوي وراسخ... ومنسجم مع محيطه العربي.
مشاركة :