< بداية أودّ الإشارة، بل والتأكيد، على أنني مع الاستقلالية التامة والشاملة للدول في ممارسة حقها السيادي الكامل في تحديد قراراتها وتتبع مكاسبها، بل وأشعر أن خللاً كبيراً في تكوينها، وسيمثل وصمة عار تلاحقها فيما لو تخلت دولة عن استقلالية صوتها ورأيها وسياساتها. فمصالح الشعوب والأوطان دوماً، أو هكذا يفترض، مقدمة على أي تحالفات وعلاقات وتبادل مصالح، سواء أكانت وفق اتفاقات ومعاهدات مكتوبة أم وفق تفاهمات تتجدد بين حين وآخر. وفي الوقت ذاته، أتفهم نظرية «العلامة المائية» الممهورة على مواثيق السياسة، التي يمكن رؤية ألوانها القزحية بأشكال مختلفة ومن زوايا متعددة، والتي تعتمد في مجملها على ما يدور في دهاليز السياسة وتحت طاولاتها وخلف كواليسها، ليكون بموجبها ما هو مرفوض اليوم مقبول غداً. ولكنني هنا، وانطلاقاً من مستجدات شهدتها الساحة العربية - العربية أخيراً، سواء أكان ذلك في الخفاء أم في العلن، مروراً بالزوبعة الجدلية التي أثيرت حول مواقف بعض الدول العربية خلال تصويتها على مشروع «إدانة إيران» في مجلس حقوق الإنسان، المقدم من كندا، أو من خلال الموقف المعلن لمصر (القديم الجديد) من نظام بشار الأسد في سورية، وحزب الله في لبنان، ونظام الملالي في طهران، ونهاية بتذبذب وتقلب في سياسات دول كالسودان وعُمان والأردن، وفِي أحيان ما الكويت! صحيح أن عدداً من حكومات هذه الدول تعتبر أن ضغوط الداخل والخارج تضطرها أحياناً لاتخاذ بعض المواقف غير المتناغمة مع مواقفها الرسمية في البيانات والقمم الثنائية والجماعية، ولكن الأكثر صحة أن هذه الحكومات في ظروف وأحداث معينة تتخذ مواقفها بتفرد تام متجاهلة أي صوت في الداخل والخارج متى ما أرادت ورغبت. وحتى لا ينصرف ذهن القارئ على أن ما سبق لم يكن سوى مقدمة لانتقاد مواقف سلبية، أو على الأقل غير متوقعة، من بعض الدول العربية تجاه سياسات ومواقف السعودية لعدد من قضاياها في المنطقة، أشير إلى أني سأستبعد هذه الفرضية على الأقل في الفترة الحالية، فلربما ستكون الفترة القادمة «حبلى» بالمفاجآت والمتغيرات للتحالفات السعودية التي ستبين أين، ومتى، وكيف، ومع من ستضع أقدامها وتركز أعلامها؟ وسأنصرف إلى شمولية أكبر هي بلا شك محل تساؤل كثير من المراقبين والمثقفين، بل وحتى الشعوب لأطرح السؤال العريض: كيف يمكن أن تتبلور المواقف والمصالح المشتركة بين الدول العربية؟ وما هي البوصلة الفعلية التي تتحكم في مؤشرات العلاقات الثنائية بين دولتين؟ وقبل الإجابة على التساؤلين علينا أن نتفق على أنه لم يعد هناك مكان أو متسع من الوقت لمجرد الاستماع إلى ديباجة ومفردات المصير المشترك والدم والعروبة، وما إلى ذلك من شعارات القومية العربية، وعلينا أن ننطلق من المصالح الفعلية للدول العربية. ولو أردنا المرور السريع على «بعض» وليس كل علامات الاستفهام والتعجب، وتساءلت، وربما معي الكثير، أين تكمن مثلاً المصلحة للحكومة المصرية في دعم نظام بشار الأسد مقابل مواقف دول العالم والدول العربية والإسلامية؟ علماً أن الأمر لم يكن مجرد تصريحات وتأييد إعلامي، بل امتد إلى دعم سياسي للنظام السوري بالتصويت في المؤتمرات الدولية مقابل إجماع عربي في الكفة الأخرى؟ ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل ظهر الموقف المصري وكأنه يقع على مسافة أقرب من محور طهران في الشام، والذي تقع تحت مظلته سورية ولبنان وحزب الله، وبالتالي يأتي السؤال هنا في ميزان المصالح العليا للدول: ما هي المصلحة التي يمكن أن تعود بها هذه المواقف على مصر مقابل ما سيترتب عليها من تبعات وآثار عاجلاً أم آجلاً؟ ثم نأتي للموقف السوداني ونتساءل عن سر التغيّر العجيب الذي طرأ على السياسة السودانية، ولا سيما بعد رفع العقوبات الأميركية عليها بدعم كبير من السعودية، ليخرج الرئيس السوداني بتصريحات غزلية تجاه إيران تواكبت مع امتناع الخرطوم عن إدانة إيران في مجلس حقوق الإنسان، في الوقت الذي عانت السودان لفترات طويلة من التدخل الإيراني في الشأن الداخلي السوداني، ليبقى السؤال: ما هي المصالح السودانية المنتظرة من هذه المواقف؟ إجابة التساؤلين جاءت مختصرة جداً، فهناك من خبراء السياسة من يقرؤون في هذه المواقف المتذبذبة أنها لم تصل لصناعة تحالفات مضادة بقدر ما هي تمثل لدى المتفائلين جانباً من الاستعراض السياسي، فيما اعتبرها المتشائمون أقرب للابتزاز السياسي، ولعل الحقائق ستكشف يوماً ما إلى أي الاتجاهين سارت الأمور ما لم يكن هناك مسار مفاجئ جديد. khaliddrraj@
مشاركة :