مدينة زوكربيرغ الفاضلة تفتقد مهارات التواصل البشريةيروج مارك زوكربيرغ مؤسس فيسبوك للقيم المثالية التي يحاول إرساءها في العالم عبر الموقع الأزرق الذي يجمع الناس “بمحبة” بغض النظر عن الأرباح الطائلة التي يجنيها زوكربيرغ من خلال الموقع، بينما يسخر المحللون وخبراء الاتصال من سذاجة ادعاءات زعماء وادي السيليكون التي تفتقر إلى الحنكة السياسية.العرب [نُشر في 2017/12/02، العدد: 10830، ص(18)]لغة التقوى لا تحتاج تنازلات لندن - يتحدث مارك زوكربيرغ مؤسس فيسبوك بطريقة مثالية عن رغبته في رؤية عالم يعمّه الخير، وهو حديث يثير استغراب المحللين بالنظر إلى أنه أحد أنجح صناع المال في العصر الحالي. ومع ذلك، يتحدث وكأنه قس في الكنيسة الأسقفية. وقال زوكربيرغ بعد أن نشرت شركة فيسبوك أول نتيجة للأرباح ربع السنوية حققت فيها عشرة مليارات دولار بارتفاع نحو 50 في المئة على أساس سنوي “إن حماية مجتمعنا أكثر أهمية من تحقيق أقصى قدر من الأرباح”. وتعيد تصريحات زوكربيرغ إلى الأذهان فورا قضية الأخبار الكاذبة التي لا تزال كابوسا يلاحقه، وتشكل بقعة سوداء في عالم افتراضي يحاول إثبات نصاعة صفحته على الدوام، وهمه الوحيد جمع الناس معا وإيجاد وسيلة للتواصل بينهم، كما يقول زوكربيرغ. وأصبحت نوايا مدير الموقع الأزرق أشبه بظاهرة يصح تسميتها بـ”متلازمة زوكربيرغ”، أصابت “الفيسبوكيين” الذين يروجون لحياة مثالية ومدينة فاضلة وجوقة طويلة تردد النصائح والانتقادات لما يعكر صفو المجتمع. لكن الوجه الآخر لهذا العالم الافتراضي ماثل للعيان، ويقول إدوارد لوس في تقرير لصحيفة الفاينانشال إن “شركة فيسبوك تحولت لتصبح سلعة سامة منذ انتخاب دونالد ترامب”. ويضيف، “شركات التكنولوجيا الكبرى هي الآن شركات السجائر الكبيرة الجديدة في واشنطن”. ويتحمل زوكربيرغ مسؤولية هذا الوضع، بعد أن نفى أن “فقاعة التصفية” في شركة فيسبوك كانت قد لعبت أي دور في دعم ترامب للفوز برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، أو تدخل روسيا لمساعدته في الانتخابات، وأصبح زوكربيرغ الهدف الرئيسي لهجمات الديمقراطيين.التحدث عن القيم له فائدة جانبية تتمثل في تجنب رجال الأعمال التحدث عن الثروة وغض النظر عن عدم دفع الضرائب و”فقاعة التصفية” بحسب وصف الكاتب الأميركي إلي باريزير في 2011، هي ظاهرة في مواقع التواصل الاجتماعي التي تحاول التنبؤ بالمعلومات التي يرغب المستخدم في إيجادها. فتقوم هذه المواقع بإقصاء معلومات لا تتناسب مع موقف المستخدم. ويبذل زوكربيرغ جهودا واسعة اليوم ليقنع المستخدمين والحكومات أن بإمكانه تحويل خاصية الأخبار في فيسبوك من غرفة للصدى إلى ميدان عام. ويقول إن “نمو الإيرادات لم يعد هو الأولوية فأي من تلك الأمور ليس مهما إن تم استخدام الخدمات التي نقدمها بطريقة لا تعمل على تقريب الناس من بعضهم البعض بشكل أكبر”. ويعتبر لوس أن المؤسس المشارك لـ”فيسبوك” ليس أول شخص في وادي السيليكون تظهر عليه علامات عدم الكفاية السياسية، ولن يكون الأخير، رغم أنه قد يكون الشخصية الأكثر تأثيراً، وهو يمثل بشكل جلي قصر النظر لدى نخبة من الأميركيين الذين يتمنون تحقيق الخير من خلال تقديمه. وقام زوكربيرغ بجولة في أنحاء الولايات المتحدة شملت 30 ولاية، وخلص فيها إلى أن الاستقطاب منتشر والبلاد تعاني أزمة إدمان على المواد المخدرة. وهذه الخلاصة التي لا تحتاج إلى الكثير من البديهية لمعرفتها، حتى مع البقاء داخل جدران المنزل، تشير بحسب لوس إلى أن بعض الأشخاص عباقرة في جانب واحد ولكنهم ضعاف في مجال آخر. وزوكربيرغ هو نجم في العالم الرقمي ذو مهارات بشرية ضعيفة. فعندما يذهب زعيم في جولة استماع للناس، فإن ذلك يعني أنه يسوّق لشيء ما. ففي حالة هيلاري كلينتون، كانت تسوّق نفسها. وفي حالة زوكربيرغ، كذلك يقوم هو بتسويق نفسه. وحين أُطلق إعلان مفاجئ عن أنه سوف يتناول العشاء مع أسرة عادية، تبادرت للأذهان صورة دكتاتور من الاتحاد السوفييتي، مع كتيبة الأنصار الشخصيين الذين جلبهم معه. ويلفت لوس إلى أن هذه ليست الطريقة التي يتوصل فيها الباحثون إلى معرفة طريقة تفكير الأسر العادية. وليست كذلك طريقة جيدة لإطلاق حملة سياسية. وبعد مرور عشرة أشهر على بدء زوكربيرغ لجولته، تم استبعاد التكهنات بأن ذلك كان من أجل محاولة رئاسية. ويتساءل جون نوتون أستاذ التحليل التكنولوجي ومؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته عن الإنترنت” عما إذا كان زوكربيرغ يدرك ما يعنيه حقا المجتمع بوصفه المرشد الأعلى لفيسبوك، لأن كل الدلائل القريبة منه تشير إلى أنه يمتلك فكرة خافتة عن ماهية المجتمع الحقيقي، تتعدى بقليل الفهم الذي يشير إلى مجموعة أشخاص لا يتوافقون على كل شيء “في أي قرية من العالم”، ولكنهم ابتكروا طرقا للتقدم والقيام بما يحتاجون إليه بشكل جماعي.يسود وهم ليبرالي آخر وهو الاعتقاد بأن رجال الأعمال أو السياسيين لديهم فهم أعمق لمصالح الشعب مما لدى الناخبين أنفسهم ويرى الناقد نيكولاس كار أن فكرة بناء مجتمع على نطاق كوكبي لا تبدو مثيرة للجدل من الوهلة الأولى، وهي أمر عملي وضروري وجيد تماما، لكنه يعتبر زوكربيرغ مثل وادي السيليكون فقاعة تكنولوجية، خارج السياسة، خارج التاريخ. والآن وقد كُسر التاريخ من خلال فقاعة تكنولوجية اسمها فيسبوك تسببت في اضطراب الخوارزميات، علينا إعادة التاريخ مرة أخرى إلى سكته، ويجب أن تكون الحتمية التكنولوجية مرادفة للحتمية التاريخية، وفق كار الذي استنتج أن رسالة زوكربيرغ جعلت من وادي السيليكون منفصلا عن الواقع، وأظهرت كيف يمكن لشخص أن يكون على حد السواء، ذكيا بطريقة مذهلة وساذجا بشكل مثير للدهشة. ليصل إلى القول إن مارك زوكربيرغ ليس شخصا شريرا، لكنه لا يعرف سوى القليل عن العالم الذي يعيش فيه البشر. ويبدو لوس موافقا تماما على هذا الرأي بقوله أيضاً إن زوكربيرغ شخص طيب، لكنه من فئة يغلب عليها تغليف الكلام عن المصالح الذاتية باستخدام لغة التقوى. فالتحدث عن القيم له فائدة جانبية تتمثل في تجنب التحدث عن الثروة. فهو مثلا لا يقوم بتمويل أي حروب خاصة في أفريقيا. لذلك هو شخص طيب. بينما حقيقة أن الشركة الخاصة به لا تكاد تدفع أي ضرائب هي خارج الموضوع. ويسود وهم ليبرالي آخر وهو الاعتقاد بأن رجال الأعمال أو السياسيين لديهم فهم أعمق لمصالح الشعب مما لدى الناخبين أنفسهم. وفي بعض الحالات، قد يكون ذلك صحيحا. فمن الصعب أن نحدد كيف سيعمل إلغاء الإعانات الصحية على مساعدة الناس الذين يعيشون في المناطق المحصورة بين الساحل الغربي والشرقي في الولايات المتحدة، وفق لوس. لكن القضية الأساسية هي أن عدد المرات التي يبهر فيها زوكربيرغ المجتمعات الإلكترونية لا يهم، فهي لا يمكن أن تحل مكان المجتمعات الحقيقية التي أصبحت في عداد المفقودين. فأن يلعب الناس البولينغ معا عبر الإنترنت يوازي تماما ممارسة اللعبة وحدك خارج إطار الإنترنت. وفي المرة القادمة التي سيرغب فيها زوكربيرغ في استعراض إنجازات شركة فيسبوك، يجب عليه استثمار بعض أمواله في مكان حقيقي. وينبغي أن يكون ذلك بعيدا عن أي مدينة شقت طريقها نحو الازدهار. ويمكنه أيضا التنازل عن الإيرادات التي تحققها فيسبوك خلال يوم أو يومين، لتدريب الآلاف من الناس. بل يمكنه حتى تمويل صحيفة يومية للتعويض عن الدمار الذي تُلحِقه وسائل التواصل الاجتماعي بالصحافة المحلية. فالأثر المترتب على ذلك يمكن أن يكون قويا للغاية. ويثبت أن زوكربيرغ يستطيع الإصغاء، بدلا من التظاهر بذلك.
مشاركة :