الفكر الإنساني عندما يشكّ في الأفكار التي بين يدَيه، سيتحرر حتماً ويخرج على التقاليد؛ لأن جوهر التقاليد هو اليقين، لكن لا يقين بعد شكّ، فحين يشكّ المرء في أمر واحد من أمور دنياه لن يستطيع أن يوقفه شكّه وارتيابه عند هذا الحد؛ لأن هذا الارتياب سيطال أموراً أخرى، حتى يعمّ الشكّ جميع النواحي، والإنسان إذا كسر تقليداً واحداً، لا بد أن يأتي يوم يكسر فيه جميع التقاليد. لقد كان الإنسان قبل ظهور "المدنية"، أي الإنسان البدائي، يعيش قانعاً مطمئنّاً لا يشك ولا يسأل، ولا يحقق ولا يدقق، ولهذا كان سعيداً سعادة يحسد عليها، وعندما بدأ الزمان في المرور أصبح مجبراً على أن يسأل ويبحث ويدقّق، فتضاءلت سعادته شيئاً فشيئاً، وأصبح يواجه مشاكل جديدة لم يسبق أن واجهها، فأصبح مجبراً على أن يبحث عن حلول لها، وما أن يجد الحلول حتى يجد نفسه أمام مشكلة جديدة وهكذا، فأصبح الإنسان كائناً مفكّراً مبدعاً من جهة وشقيّاً وكادحاً من جهة، ولهذا كان يحتاج إلى التجديد في كل شيء.. في الفكر، في أسلوب الحياة وغيره. إن التقدّم والتطوّر يا عزيزي المسلم، محال أن يكون بالتمسّك بالتقاليد القديمة التي تأمرك بالتسليم الكامل والخنوع، وأن من تمنطق تزندق، ومن جهة أخرى بالقناعة والاتكال على عقلية الابتلاء الإلهي؛ لأن التاريخ لا يهتم بهذه المقاييس الاعتباطية بتاتاً. في الماضي كان الكهنة يضحكون على ذقوننا بتفسيق الآخر الأكثر حضارة منّا ورميه بالانحلال الخلقي، وصدّقناهم فانشغلنا بتكفيره والسخرية منه؛ لأنه ليس من زمرة خير أمة أُخرجت للناس، وعندما نضجنا وفتحنا عيوننا على الواقع، وجدنا أطلال بلدان إسلامية مهدّمة ومدّمرة وأوطاناً متناحرة مخرّبة، وسفكاً يومياً للدماء وانحرافاً لا مثيل له في الأخلاق عند العامة وأهل الدين، في المقابل الآخر لا يزداد إلا تقدّماً وحضارة ورفاهية، ولم يسبق أن اهتمّ ولو بدقيقة بتكفيرنا له، فشوارع بلدانه نظيفة، ومجتمعاته آمنة مطمئنّة، وشعوبه مختلفة في العرق والدين ومع ذلك اقتنع أن هذا الاختلاف من النعم التي يحسد عليها وفهم أن كل ثقافة هي مكمّلة للأخرى وينبوع إثراء وتجديد لها، عكس نحن الذين أعملنا السيف فيمن اختلف معنا في صغائر الأمور. ولأننا نعيش في عصر أصبح عنوانه السرعة والتقنية، يجب أن نعترف بأننا خارج هذا العصر من جميع النواحي، فما زلنا في القاع نستنشق الخرافة ونستحسن عقلية الآبائية والوصاية على عقولنا التي أصررنا على وصفها بالقاصرة أمام عقول دهاقنة الإسلام، ونؤمن بالأسطورة، حتى وصل الحد بهذا الإيمان إلى أن يعتقد الكثير من النّاس أن خلاصنا لن يأتي بالتشمير عن سواعدنا، وأن نكشف غمامة الجهل على عقولنا، وأن نأخذ بأسباب القوّة من الآخر الذي سبق أن أخذها منّا، بل الخلاص سيأتي به المهدي المنتظر، الذي سيقضي على الظلم في الأرض بطريقته السحرية، وسيمكّن لنا في أرض الله لنعود إلى أستاذية العالم؛ ليدفع لنا العالم الجزية عن ذل وهو صاغر، ويكسر الصليب تكسيراً، وسينبري سيفه حتى للخنزير ليقتله الذي لا نعرف للأسف ما ذنبه؛ لكي يُقتَل. إن التجديد في طريقة التفكير هو الذي يخشاه كهنة الإسلام، ولا يخشون الأفكار بذاتها، ولهذا يحاولون بأي طريقة الإبقاء على بلاهة العقول التي تجلب للمسلم الطمأنينة والسعادة فتجدهم يحرّمون أشياء لا علاقة لها أبداً بالدين، وبسيادة ثقافة التحريم ظن المسلم أن ما لديه هو الحق وما لدى الآخر هو الكفر والباطل، وهو أصلاً لو يشغل عقله ولو لمرّة لكي يعرف عن أي فكر هذا يدافع عنه لقام وانتحر، ولهذا تجده يدافع عن الكهنة ودينهم مع مجموعة القيود التي ألبسوها غطاء الدين، وكذبوا على العامة وقالوا لهم: إن الدين ليس هو شأن العامة، بل شأن الكهنة وحدهم، وبسبب هذه البلاهة تتعجّب كيف تنفق المليارات من طرف الدول التي تهتم بالعلم والبحث العلمي، بل سجّل التاريخ انتحار العديد من العلماء بسبب فشلهم عن إيصال أفكارهم للناس وتوضيحها لهم مثلما فعل عالم الفيزياء بولتزمان، ثم يأتي المسلم في لحظة واحدة ليفنّد تلك البحوث والنظريات لا سوى لأنها تخالف حسب زعمه الدين، وأن الغرب يمثّل حزب الشيطان الذي يتآمر على المسلم عضو حزب الله، ولأن أنصار حزب الله هم الغالبون، تجده لا يعير اهتماماً للتقدّم الحاصل في العلوم والنظريات وظهور أساليب تفكير جديدة نسخت القديم وأحالته إلى التقاعد، ما زال يتمسّك بنظريات أجداده المغفّلين وأساليبهم في التفكير التي أكل عليها الدهر وشرب، فالمسلم يفكّر بأسلوب القرن العاشر وهو في القرن العشرين، بل وتراه يفتخر بجدالات ابن حنبل وابن تيمية ناسياً أن العلم الحالي جعل جدالاتهما شبيهة بلغو الأطفال. وما يخافه المشايخ كما قلنا سابقاً ليس الأفكار، بل تجديد طريقة التفكير هي التهديد الكبير لهم.. ولهذا ذهبوا لكي يقاوموا أي شيء قادم من الغرب، فصبغوا هذه المقاومة بلون الدين، وحرّموا ذات يوم فقهاء السلفية ركوب السيّارة؛ لأنها من بنات الجنّ، وحرّموا الرسم والجغرافيا والتصوير واللغات وكفّروا من يؤمن بكروية الأرض باعتبار هذه الأفكار ذريعة للوقوف على عقائد الكفّار وعلومهم الفاسدة التي هي شيطان مريد يريد أن يتفوّق على المسلمين كراهة في الإسلام، وكل هذا لأنهم خافوا من " الجدل المنهي عنه شرعاً"؛ لأن الاطلاع على الآراء الجديدة التي لا يعرفها المسلم البسيط هي فاتحة شهيّة للاطلاع أكثر، وهنا ستكون المصيبة الكبرى على الشيوخ، فسيتحرر العقل تدريجياً وتسقط خرافة "النقل قبل العقل"، ويصبح من غير المجدي الضحك على ذقون الناس بغطاء اسأل "أهل العلم". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :