يخامرني شعور بالحرج عندما آتي على ذكر أشخاص من الماضي قد لا تعرف الأجيال الشابة شيئا عنهم. كما أشعر بشيء من الأسف لأن هذه الأجيال فاتها أن تعيش في عصر كثُرت فيه الأسماء البرّاقة خارج القطبين الرئيسيين. بل خارج العالم التقليدي برمته، أي أوروبا والاتحاد السوفياتي والصين. هؤلاء حملوا دولهم الصغيرة وجاءوا بها إلى الأمم المتحدة، يعرضونها مثل ثوب العيد. جاء باتريس لومومبا من الكونغو المشتعل، وفيدل كاسترو من كوبا التي ستزرع قبالة الساحل الأميركي صواريخ سوفياتية نووية، وكنت ترى سيهانوك «ملك» كمبوديا باحثا عن صحافي يتحدث إليه ولا يجد، لأن أحدا لم يكن يتوقع أن كمبوديا سوف تشتعل وتُفتَّت إلى رماد. كان من المهم أن تظهر صورك في الأمم المتحدة لكي تظهر بعدها في صحف بلدك. وأدرك هذا الأمر سريعا أرمني من فلسطين يدعى ليفون كشيشيان، عيَّنته «الأهرام» مراسلا لها، وعيَّن نفسه مقاولا لجميع صور الوفود العربية. تصوَّر مراسل أهم صحيفة عربية آنذاك لا يجيد كتابة اللغة، ولكن ليقول. لم يكن فردا، بل كان ظاهرة من الصحافة والعلاقات العامة والصداقات، وكان مكتبه الصغير مثل دائرة الشكاوى في دار البلدية. خلال الجمعية العامة وازدحام المبنى بالضيوف، كان ليفون يستعين بالطلاب العرب في نيويورك لالتقاط الصور. عندما جاء الشيخ صباح الأحمد، أمير الكويت، لإلقاء خطاب الدولة أمام الجمعية العامة، تقدم منه، معانقا، وزير خارجية المغرب السابق محمد بن عيسى. خلال اللقاء، قال له الدكتور بن عيسى: هل تذكر أول مرة التقيت سموكم؟ فكر الشيخ صباح قليلا وسأل: «عندما كنتَ وزيرا للثقافة؟». قال: لا. عاد الشيخ صباح يقول: «عندما كنتَ سفيرا في واشنطن؟». كرر بن عيسى النفي، ثم قال: «أنا من التقط لك الصور الأولى في الأمم المتحدة عام 1964. يوم كنتُ طالبا وأعمل خلال الدورة». عاد محمد بن عيسى بعد سنوات رئيسا لوفد بلاده، خطيبا بارعا خلف المنصة ودبلوماسيا لامعا في الأروقة تُلتقط له الصورة وتُسلَّط عليه الأضواء كوجه من الوجوه المتألقة في عالم السياسة. كانت الجامعة في نيويورك معهده، والأمم المتحدة مدرسته الأولى في الإطلالة على العالم كمشهد واحد بمعالم كثيرة. هنا أيضا، تدرب أميركيون وبريطانيون وفرنسيون قبل أن يصبحوا وزراء خارجية في بلدانهم. يتعلم الدبلوماسي في هذا المختبر مهنة فائقة الصعوبة، اسمها التفاوض. إنها نقيض للطبيعة البشرية، لأنها لا تعترف باليأس ولا تعرف التعب ولا تقر بالغضب وتبحث دائما عن شاطئ ترسو إليه. وغالبا لا تعثر إلا على الصخور. إلى اللقاء..
مشاركة :