Follow ضرب داعش لا يجب أن يحمل اسم مكافحة الإرهاب بمعناها الحقيقي والفعلي. لأن داعش ليست هي الفكرة، بل إنها شكل من أشكال تجسيد الفكرة على أرض الواقع، كالقاعدة وبوكو حرام وجماعة أبو سياف وغيرها من الحركات الإرهابية الإسلاموية. لكن البعض مازال يتحدث عن داعش كما لو أنها عصابة ، ويمكن الخلاص منها عبر الاستعانة بالغزاة الأمريكان وقدراتهم العسكرية، والسياسية على الحشد العسكري. غير أن المسألة لا يمكن مداواتها بالتي كانت هيَ الداء كما تقول الحكمة العربية. ولعله يجدر بنا أن نعيد النظر في تعاطينا مع الكثير من الحكم والأقوال العربية المتوارثة. فهي أحيانا قد تذهب بنا إلى عكسها. كما هو حاصل اليوم أمام هذه الحكمة. فالتي كانت هي الداء يجب أن تكون بعيدة عن التداوي هذه المرة. فالتطرف الجهادي الداعشي، الذي طالما أشعلت حرائقه المخابرات الأمريكية، من غير الموضوعي أن تكون هي المعين على إخمادها بأساليبها الانتفاعية المبتزة، في كل مرة.. إن الملاحظ على الخطاب السياسي والديني والإعلامي في أحيان كثيرة، والذي يحذر من داعش، وخطر الإرهاب، هو أنه غير مدرك لبواطن الأمور، وجذورها. وهناك شبه إجماع على القول بأن خطر داعش يستدعي التحالف العسكري الدولي للقضاء على دولتها الإسلامية. بينما ، في واقع الأمر، فإن هذه الدولة الإسلامية قابعة في هيئة حلم أصيل، بأذهان ملايين المسلمين الجهلاء في المنطقة، ومن حول العالم. وفي حين، لم يتحدث من قبل، الخطاب الديني مثلاً، والذي يحذر اليوم من داعش مستخدما قاموس الأمريكان، عن خرافة ما يعرف ببلاد الإسلام، الخلافة، الدولة الإسلامية، الفتوحات وباقي الأدبيات الإسلاموية، التي لا تعترف بالحدود الدولية ولا المعاهدات السياسية ولا القوانين ولا الأعراف! أتساءل، كيف يمكن التعويل على هذا الخطاب الديني العجيب، في إقناع المتطرفين، وثنيهم عن اعتناق أفكار داعش الحالمة بالدولة الإسلامية الكبرى، وعودة الخلافة الإسلامية. إنه خطاب لا يمكن أن يعترف بأخطائه، ووجوب مراجعة أفكاره، وتوجهاته، وفتاواه التي تدعو إلى الجهاد تارة، وفي تارة أخرى تجعله فسوقا وكفرا. إن مثل هذه المؤسسات المتناقضة في خطابها أصبحت فاقدة للمصداقية في أوساط الناس. وأصبح خطابها الذي يملا عليها من الجهة السياسية العليا، واضح المعالم، وغير مؤثر لأنه غير مختلف عن الخطاب السياسي الراهن، ونحن نعرف أن المؤسسة الدينية لا تكون مؤثرة حين تنهى عن الامتثال إلى ما كان فيما سبق من جملة أوامرها، ثم تأمر بما كان من نواهيها. إنها باختصار، وأعني المؤسسة الدينية بكل فروعها، وأشكالها من رأس الهرم حتى لجان المناصحة وإصلاح ذات البين!، جميعها مؤسسات ليست صالحة، ولا يجب أن تكون كذلك، للاستعانة بها في إصلاح ما كانت أول وأكبر سبب في اعتلاله على مر عقود من الزمن. إننا مجتمع مسلم في دولة مسلمة هي مهبط الوهي ومنطلق الرسالة المحمدية، فلا حاجة لنا بالدعاة والوعّاظ الذين يعلمون الناس معنى الشهادتين وأحكام الاستنجاء!. إننا مجتمع مسلم في دولة مسلمة ونعيش في عصر متقدم جدا من تاريخ البشرية، فلا حاجة لنا بهذا الصوت الواحد الذي تمثله المؤسسات الدينية في البلاد. لا حاجة لنا بمن يتسلطون على حرياتنا الشخصية في الأماكن العامة بذريعة الاحتساب والنهي عن المنكر وحفظ الفضيلة. لماذا يكون من المسموح بيننا أن يتهجم أحدهم على المرأة أمام زوجها لأنها لم تلبس النقاب النجدي الوهابي والذي يراه ذلك الشخص مظهر ملزم للمرأة المسلمة؟ لماذا يكون بيننا من تضطر امرأة مثل عبير لتصفعه ويركلها ، خلال دفاعها عن زوجها الذي تم ضربه ضربا مبرحا قبل ذلك؟ لماذا تسمح الشرطة الجنائية بتطفل الهيئة على القضايا الجنائية التي من صلب مهامّها المناطة بها، مثل قضايا الابتزاز والدعارة والخمور المغشوشة التي يصنعها مجهولون في مستنقعات الصرف الصحي؟ إن الدين سلوك اختياري، قبل أن يكون أي شيء آخر, فلا يجب أن نحمّله تنظيم الحياة الاجتماعية والمدنية، فنجعل منه مؤسسة تحمي النساء من التحرش، لكنها لا تحميهن من تسلطهم وسطوتهم على مظهرها، وحرياتها وحقوقها الإنسانية التي يكفلها لها الشرع وحق الإنسان المتعارف عليه في كل أنظمة العالم وقوانينه. إنهم بافتعال الحاجة لتحويل الدين إلى سلطة حكومية تنفيذية، استطاعوا أن يفرضوا خطابـاً مقيتا عمل لعقود من الزمن على أن يخفي المرأة ويجعلها تهمة، ويجعل من وجهها فضيحة وعارا وكما قال الشيخ صالح الفوزان وجه المرأة أعظم عورة فيها!!.. ثم يتنافخون أسود الهيئة، كما يسمون أنفسهم، ويهبّون لإنقاذ فتاة تعرضت للابتزاز بصورة وجهها العورة الأعظم!..أمرٌ جنونيّ أشبه بمن يهجم عليك ليكسر ساقك ثم يهبّ لمساعدك فيشتري عكّازاً ثم يتصدق به عليك لوجه الله سبحانه وتعالى. إذن، فالحكاية كلها أن هؤلاء المتسلطون باسم الدين قد تنّمروا على الناس والدولة، وصارت مطامعهم صريحة وبذيئة، بحيث تتجاوز التسلط على المجتمع، ومحاولة اقتيادة، إلى التسلط على الوطن ومحاولة قيادته، أو الجلوس في مكان قيادته على الأقل، في الوقت الذي لم نعد نجد منهم سوى ما يعرضنا جميعا لسخرية العالم وحنق الآخرين في أماكن كثيرة في هذه الأرض، وهو حنق متصاعد مع مرور الوقت وانتشار وباء التطرف الجهادي الإسلامي. إن ما نلمسه اليوم من توجه حكومي بشكل خاص نحو تحطيم شوكة هؤلاء المتطرفون الرجعيون، والمتسلطون على الحريات الاجتماعية والفكرية في المجتمع السعودي، الذين يحملون ذهنية داعشية بامتياز في هيئة مواطن صالح ومتدين، لهو أمر مبشر للغاية, برغم تأخره كثيرا جدا، إلا أن الوصول المتأخر هو في أية حال، خير وأجدى من عدم الوصول. ومن هنا يبدأ القضاء بشكل حقيقي وفعال على داعش. وأحلام الدولة الإسلامية. من حيث يتم عجن العظام اللينة بمبادئ التطرف الإديني والنفسي، على طاولات مدرسية لا يتجاوز ارتفاعها 60 سم.. يبدأ من إنقاذ الأدمغة التي مازالت تتخلق في الصفوف الدراسية الأولى، من براثن المتطرفين الذين ينتشرون في التعليم كالنار في الهشيم . القضاء على داعش ، يبدأ من تغيير المناهج التي تعلم البنات في الثانوية فقه الجهاد وأحكامه. يبدأ من استعادة أي مؤسسة كانت من أحضان المتطرفين لأحضان المجتمع، الذي هو أولى بمؤسساته من الوصوليين الذي يتصدرون كل شيء بمؤهلات المظهر المتدين الطاهر النقيّ. القضاء على داعش، وهذا هو الأهم في مشروع جاد لمكافحة التطرف الجهادي، هو تكريس مفهوم المواطنة، وهذا لا يتم بطبيعة الحال عبر مناهج التربية الوطنية، بل عبر إيجاد دولة المؤسسات المدنية المستقلة، وعبر إشراك المواطن في تقرير المصير في كل مجالات الحياة، وعبر توفير احتياجات الفرد الأساسية، كالصحة والتعليم والنقل العام-المواصلات. وتأمينه بالحياة الكريمة التي تتكون من تسهيلات الحصول على الوظيفة والسكن. عندما يشعر المرء بقيمته ، وبأن المكان الذي ولد وعاش فيه ومن خيراته ، يوليه ما يستحق من العناية والاهتمام والتقدير، فإنه لن يجد في فكرة التسلل إلى بلدان أخرى بغرض الجهاد ضد أنظمتها الحاكمة، أي سبب موضوعي على الإطلاق! كما إن الشاب المتطرف، لن يجد ما يدعوه للإعجاب بداعش ، ما لم يكن ذلك ضمن أدبيات المتطرفين الذين شكلوا وعيه على مدى عمره كاملا، في المدرسة والمسجد والشارع والبيت والتلفزيون وفي كل مكان.. داعش التي تحكم الناس بقطع رؤوسهم لا يمكن أن تثير إعجابَ الأسوياء من البشر. أي لا يمكن أن يتعاطف مع الداعشي إلا داعشي كامل الدسم. لقد شن الأمريكان دواعش الغرب حروب مكافحة الإرهاب الفاشلة بامتيـاز في أماكن كثيرة من قبل. لقد حاربوه في أفغانستان وفشلوا في القضاء عليه، وراح ضحية فشلهم عشرات الآلاف من الأبرياء الأفغان، ومن القرى والمنازل والأسواق والجبال والجسور والشجر والحجر.. وأخيرا قتلوا بن لادن، إلا أنه مازال هناك من يقود تنظيم القاعدة بكل اقتدار من أفغانستان. حيث الحرب الأمريكية الفاشلة على الإرهاب. ورغم أن أمريكا داعشية عريقة جدا إلا أنها فشلت في تجنب غزوة الحادي عشر من سبتمبر. كما فشلت كثيرا جدا في اختيار عملائها الاستخباراتيون الذين تغرسهم في هذه التنظيمات وسرعان ما يتحولون إلى عملاء مزدوجون يعودون عليها بالويل والثبور. إن مظهر جون كيري وهو يتجول في المنطقة العربية مبشرا بالقضاء على داعش، لهو مثير للضحك الذي هو ضحك كالبكاء. فهذا الرجل لا يختلف عن الذين يقودون الدولة الإسلامية -داعش ، إلا أنه يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق ذات لون واثق، ويحلق اللحية والشارب، ويرتدي حذاء برّاقا، ويسرح شعره باعتناء. لا فرق بين مشهد البغدادي على منبره في الموصل ومشهد كيري على منابره المتكاثرة في الآونة الأخيرة، في العديد من دول المنطقة. يقول قادة المجاهدين، سندحر الأعداء بفلوسكم أيها الناس. ويقول كيري سندحر الأعداء بفلوسكم أيها الناس. وبينما الآمال ما زالت معلقة على التحالفات الدولية لإنقاذ البشرية من خطر داعش المحدق. ينطلق الأمل في نفوس الكثيرين من أبناء البلاد ، بأن يتم التخلص من كل أسباب التطرف الديني والاجتماعي، ومن كل سلطة دينية تحشر نفسها في حريات الناس الشخصية، وفي أساليب حياتهم وتفكيرهم الديني والدنيوي، وفي فتح المجال لحضور الفن ومظاهره في مجتمعنا، وحضور المؤسسة المدنية التي ترجع للمجتمع في كل شؤونها، وإتاحة الفرصة لحضور الأصوات الأخرى في المنابر الاجتماعية ، تلك الأصوات التي تمت تنحيتها لزمن طويل جدا لحساب الصوت الأوحد الذين لم ينتج لنا إلا داعش ومثيلاتها. يجب أن تكون الساحة مفتوح للجميع. يجب أن يكون للوطن للجميع. يجب أن نؤمن بأن الوطن للجميع والدين لله. يجب أن نعيد تفكيك خطاب التوحيد الذي يلبس وحدة الوطن بتوحيد الله كما جاء به محمد بن عبدالوهاب غفر الله . بهذا الاشتغال العميق على تمدين المجتمع، وخلق الخطاب المتنوع الذي يأخذه بعيدا عن مفخخات الصوت الأوحد، سوف ننجح نجاحين بدل النجاح الواحد، بحيث نقضي على فرص تغذية التطرف بكل أشكاله التي توغل في الفظاعة كل ما أوغلت في التفرع والتجذر، وفي الوقت ذاته، نعالج أزمة المواطنة وتشوهها في أذهان الناس. عبر إرساء كيان الوطن في نفوسهم وذاكرتهم، بما سلف ذكره من معطيات، ترسخ للانتماء الوطني، والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن ومقدراته ومصير مستقبله في لعبة الأمم .
مشاركة :