في جديدها الصادر حديثاً «أبطال الأمس» (مجموعة قصصية)، تنهل الأديبة مارلين سعادة من الواقع مادة تبني عليها هيكلية قصصها، وهي إذ تدرك تمام الإدراك سوداوية هذا الواقع وضبابيته تعمد إلى أن تؤطره بنوافذ من الأمل موجهة من خلالها رسالة إلى القارئ بضرورة العمل على أن يكون المستقبل أفضل وعدم الاستسلام للحاضر والخضوع للمعاناة بحجة القدر والنصيب وعدم القدرة على التغيير. في شعرها وفي مجمل أدبها، تعزف مارلين سعادة على وتر المشاعر التي تعتبرها المحرّك الأول للأديب، من ثم يأتي الأسلوب، برأيها، الذي تحرص على ألا تغلب عليه الصناعة، بل جزء من شخصيتها، مؤكدة في هذا السياق قول الكاتب الفرنسي بوفون: «الأسلوب هو الإنسان نفسه». «أبطال الأمس»، مجموعة قصصية لك صدرت حديثاً، لماذا العنوان «أبطال الأمس» وهل نفتقد اليوم للأبطال؟ سؤال مهمّ، فالإجابة عنه تضيء على الجزء الثاني من الكتاب. بداية اخترت صفة «أبطال» عنواناً لأنّ ما تقوم به شخصيّات الأقاصيص- إذا اتّخذنا فئتهم العمريّة بعين الاعتبار- يُعتبر بطولة نحتاج إلى الإضاءة عليها بقوّة في زمننا المفتقِد للقيم التي تكاد تصبح نسياً منسيّاً في زحمة هذا العصر وسرعته. أمّا كلمة «الأمس» فهي للإشارة إلى أنّ هذه المجموعة من الأقاصيص تتحدّث عن أطفال عاشوا في الزمن السابق لزمننا؛ وثمّة مجموعة ثانية، تسرد حكايات أطفال يمكن أن يكونوا ممّن نلتقيهم في زمننا اليوم، عنوانها «أبطال اليوم». عام 2013 أصدرت رواية «خيّ جيديوس» حول ثمار الحرب اللبنانية واقعها وأبعادها، هل ثمة خيط مشترك بين الكتابين، أم أن ثمة تطوراً في الرؤية والشكل بين الاول والثاني؟ «خيّ جيديوس» كان مولودي الفكريّ الأول، كتبته وأنا أنتقل من مرحلة الدراسة الثانويّة إلى الجامعية، سنة 1987 تحديداً، كنت ما أزال في أول تفتحي على الحياة، ومتأثّرة بما حصل خلال حرب 1975 في لبنان. وقد تبنّتها سنة 2013 «مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية» متكفّلة بطباعتها. أقاصيص أبطال كتبتها سنة 2007 وقدّمتها عبر شاشة تلفزيون «تلي لوميير»، كتبتها بنفَس أمٍّ مدركة لضرورة توجيه النشء وتربيتهم على القيم. بلغ عددها 25 أقصوصة ما بين الأمس واليوم. سنة 2017 شاركت بالقسم الأول منها في المباراة السنويّة التي تجريها «مؤسسة نعمان للثقافة بالمجّان»، فنالت جائزة المتروبوليت نقولاوس نعمان للفضائل الإنسانيّة. إلى أي مدى يمكن للقصة القصيرة أن تستوفي المعاني التي يريد الكاتب من خلالها إيصال رسالته إلى القارئ وهل هي فن أصعب من الرواية؟ كلّ نصّ، مهما كان حجمه، يمكنه أن يستوفي المعاني التي يريدها الكاتب، الأمر يتوقّف على نوع النص والقصد منه، فالنص الإعلاني قد لا يتجاوز السطر الواحد ومع ذلك يمكن تحميله المعاني التي يرجوها كاتبه أو من يموّله. وطالما نعتبر هذا النوع من العمل فنّاً يختلف التقييم؛ فالكاتب الحقيقي يبدع مبحراً في عالم الفكر، نصّه سفينته يتّجه بها نحو نقطة سبق واختارها، غير مبال بما قد يواجهه من صعاب، علماً أنه يكون مستعدّاً لمواجهة أي عاصفة أو إعصار. وقائع الحرب ما هو مفهوم البطولة بالنسبة إليك ككاتبة وشاعرة؟ البطولة هي أن نحافظ على تفاؤلنا مهما كثرت الصعاب، وأن نحتفظ بقيمنا مهما عظمت المغريات. وفي الشعر، أن نترك قلبنا يتحدّث بصدق من دون أن يشوّه القيم. كيف تقاربين في كتابك «خيّ جيديوس» وقائع الحرب وأبعادها، من منطلق إنساني واقعي أم ثمة مكان للخيال للتخفيف ربما من بشاعة الأحداث؟ مهما عظمت المأساة تبقى في الحياة نافذة أمل تزوّدنا بالنور. مأساة عائلة سلمان في «خيّ جيديوس» عظيمة بشكل قد لا يتقبّله العقل، ولكنّها مستقاة من واقع الحرب. وحفاظاً على التوازن في الرواية، وإخراج القارئ من السوداويّة، مرّرت قصّة حبّ وإن بشكل سريع؛ ولكنّ المأساة استمرّت... وقد حمّلت الرواية في ختامها رسالة تدعو إلى المسامحة والمغفرة والأمل بالغد، بشكل يوازي حجم المأساة التي وقعت. إلى أي مدى يستطيع الروائي أن يعيد رسم الواقع كما يراه هو ليس كما هو في الواقع؟ يستقي الروائيّ الناجح أحداث روايته من صميم الواقع، وقوّة الإقناع في عرضه هي التي تؤكّد نجاحه، والعكس صحيح. أما أن يرسمه كما يراه هو فهنا تكمن اللعبة الفنية. الروائيّ يلتقط الأحداث بأدقّ تفاصيلها ويختزنها في ذاكرته حيث تنطبع. وتبقى هناك محفوظة بعناية من دون أن يصيبها الفساد، الى أن يحين موعد حاجته لها فيخرجها ويبدأ بتحضير طبق جديد يشكّل مزيجاً من مجموع المكوّنات المحفوظة لديه، ويقدّمه للقارئ ليتذوّقه، فتكون له الكلمة الفصل في مدى نجاح الكاتب أو فشله. هل تهدفين من خلال كتابيك إلى ربط الماضي بالحاضر لتلمس ربما خيوط نور للمستقبل؟ ليس علينا أن نسعى إلى الربط. الحياة سلسلة متّصلة لا يمكن فصل ماضيها عن حاضرها، وهي تنتهي إلى حيث بدأت. نحن نسعى إلى نقل الواقع بشفافية وصدق محاولين الإضاءة على السلبي والإيجابي بغية كشف الحقائق وتقديمها صارخة للناس. رسالة الكاتب هي تكثيف الضوء لكشف الطريق، بعض الكتاب تكون إضاءاته موجّهة، وبعضهم يملك القدرة على تغطية مساحة واسعة، وهذا الصنف يمكنه أن يُحدث تغييراً معيّنا قد يرسم لمستقبل مختلف! كيف تقاربين كروائية المآسي والمعاناة الإنسانية؟ بداية أقول بصدق وأمانة: لا أعتبر نفسي روائيّة. كتاب «خيّ جيديوس» هو الرواية الوحيدة التي كتبتها. جاءت بعدها أقاصيص «أبطال» بفارق عشرين سنة، وحاليّاً أكرّس وقتي للعمل على أطروحة الدكتوراه. أما بالنسبة إلى السؤال، المعاناة الإنسانية ملازمة لوجود الإنسان، والمآسي لا تحصى، ويمكن أن نحوّل حياة أي إنسان إلى رواية. المهم ألا تُستغل هذه المآسي والمعاناة لتحقيق غايات غير شريفة، وهنا يكمن دور الروائي وتظهر خامته. بين المشاعر والأسلوب إلى جانب الرواية تكتبين الشعر، فما الذي يولّد القصيدة لديك؟ الحالات الإنسانية أم القضايا الاجتماعية؟ يتولّد الشعر لديّ نتيجة شعور عارم يغمرني. لا أبرع في تأليف الشعر، أنا حين أكتب نصّاً شعريّاً أنقل إحساساً حقيقيّاً راودني. إلى أي مدى يشكّل الأسلوب أهمية سواء في كتابة الرواية أو الشعر، بمعنى أدق هل يجب أن يوازي أهمية المضمون في الصياغة أم يأتي عفوياً يفرضه المضمون؟ يقول بوفون: «الأسلوب هو الإنسان نفسه»، أي أنّ الإنسان يُعرف من أسلوبه، وهو الذي يهيّئه ليكون بارزاً أو لا يكون. الإحساس لدى الكاتب يأتي بالدرجة الأولى، فهذه القدرة لديه تطبع انفعالاته وتحرّك موهبته. الموهبة تندرج في سياق الأسلوب. كلّ إنسان يملك الحسّ ويتأثّر بما يحيط به، ولكن قد تختلف درجات التأثر والانبهار، الفرق يكمن في إمكانيّة التعبير عن هذا الإحساس وإيصاله بالمستوى نفسه إلى القارئ؛ هذا دور الكاتب في أيّ نص من أي نوع كان (شعراً أم نثراً). ناقشت أخيراً رسالة ماجستير في الآداب بعنوان «الخطاب الإعلاميّ والإعلانيّ وتغيير بعض العادات الاجتماعيّة اللبنانيّة»، لماذا اخترت هذا الموضوع اليوم؟ موضوع رسالتي لنيل الماجستير فرضه واقع العصر. تسيطر الميديا في زمننا على حياة الناس، تدخل عمق البيوت، تنشئ جيلاً مختلفاً لا يشبه الذي سبقه في شيء، ويتخطاه بأشواط. لذا لا يمكننا أن نتجاهل واقع العصر ودوره المؤثّر في مسيرة الإنسان وتوجّهاته. كثر الكلام حول سلبيّة الميديا المعاصرة، فالإنسان عدوّ ما يجهل، ولكن لا بدّ له من مواكبة العصر، وهذا ما نحاول أن نقوم به مضيئين على إيجابيات التواصل الحديث للإفادة منها. الخطاب الإعلامي حول تقييمها للخطاب الإعلامي في ظل الهجمة على مواقع التواصل الاجتماعي وازدحام الأحداث على الساحتين اللبنانية والعربية، توضح الأديبة مارلين سعادة: «للخطاب الإعلامي دور بارز وفاعل في مجرى الأحداث على الساحات كافة، اللبنانية منها والعربية وحتى العالمية. ولا يخفى دور وسائل التواصل في تغيير واقع الكثير من الدول». تضيف: «ينعكس هذا الأمر بطبيعة الحال على الخطاب الإعلامي، وصدرت أبحاث تلقي الضوء عليه، وقد يكون ما أُطلق عليه توصيف «الربيع العربي» مثالاً واضحاً عمّا ولّدته هذه «الهجمة على مواقع التواصل»، كما أسميتِها، من خطب إعلاميّة قلبت المقاييس.
مشاركة :