ليس من قبيل الصدف أن يقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستكمال ما بدأه وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور، صاحب الوعد الشهير قبل 100 عام، بعد أن شاخ ذلك الوعد الذي استنفد أهدافه بإنشاء «إسرائيل» على أرض فلسطين، وأصبح بحاجة إلى التجديد قبل أن يتحوّل إلى مجرد ذكرى سيئة أو يتعفن ويرمى في مزبلة التاريخ. كان وعد بلفور يعنى بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، وقد تم إنجازه بالفعل مع قيام «إسرائيل» عام 1948، لكنه لم يقدم ضمانة أو شيك تأمين على بقاء هذا الكيان، أو سيرورة الحياة فيه، وبالتالي فقد تكفلت دول الغرب الاستعمارية مجتمعة بتأمين حياة الكيان على مدار السنوات الماضية، وقدّمت له كل أنواع الدعم المادي والمعنوي، بدءاً من الآلة العسكرية المتطورة وحتى توفير الحماية السياسية في المحافل الدولية، والتغطية على جرائم الحرب التي يرتكبها بحق الفلسطينيين. غير أنه بمرور الزمن أصبحت «إسرائيل» بحاجة إلى ضخ دماء جديدة في عروقها، دماء لم يستطع كل الدعم الغربي أن يوفرها له، ففلسطين بقيت حاضرة والقدس كذلك بمقدساتها الإسلامية والمسيحية في المحافل الدولية، رغم كل عمليات التنكيل والمصادرة والتهويد وهدم المنازل وتهجير المقدسيين، والفلسطينيون تحوّلوا من لاجئين إلى مقاومين، وبالمحصلة لم يستطع الكيان وداعموه، بعد مرور نحو 70 عاماً على إنشائه، من نقل سفارة واحدة من «تل أبيب» إلى القدس، أو الحصول من الدول الكبرى على أن القدس عاصمة له. يقف ترامب اليوم ليضخ دماء جديدة في عروق هذا المشروع الذي كاد أن يتحول عبئاً على مموليه، وخلال أقل من 11 دقيقة كان ترامب يعلن ببساطة، وإن كان متلعثماً، اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة ل «إسرائيل»، ويوعز بنقل سفارته من «تل أبيب» إليها، متحدياً الشرق والغرب، الحلفاء قبل الخصوم، وغير عابئ بالحقوق ولا بالتاريخ ولا بالجغرافيا، لأنه يريد أن يفي بوعده الانتخابي فحسب، وإن كان ثمة تسريبات عن ضغوط هائلة مارسها اللوبي اليهودي وممول حملته الانتخابية وطاقمه المعني بالصراع الفلسطيني - «الإسرائيلي» بقيادة صهره جاريد كوشنير. ما فعله ترامب هو محاولة لتنفيذ وعده الجديد في ذكرى وعد بلفور المئوية، بفتح الطريق أمام تهويد سياسي للقدس بعد أن عجزت كل قوات الاحتلال وآلته الإجرامية من فرض التهويد عليها. لكن ترامب نسي، في لحظة مجنونة، أن وعده الجديد كان له مفعول السحر في توحيد الفلسطينيين ودفعهم إلى العودة لخيار المقاومة سبيلاً لتحرير أرضهم، بقدر ما جذب ترامب وإدارته عداء متنامياً في العالمين العربي والإسلامي.
مشاركة :