"أولترامارين" لمالكولم لاوري: حكاية بحّار من اسرة محترمة

  • 12/8/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

«أولترامارين» لمالكولم لاوري: حكاية بحّار من أسرة محترمة   منذ عدد لا بأس به من العقود، بات كثر من القراء يعرفون جيداً الكاتب الأنغلوساكسوني مالكولم لاوري، لكن المشكلة أن كل هؤلاء بالكاد يعرفون رواية أخرى له غير تلك التي تعتبر الأشهر بين أعماله، «ما تحت البركان»، إلى درجة اعتباره من أصحاب العمل المتكامل الواحد. والحقيقة أن الفيلم الذي حققه جون هستون عن هذه الرواية إذا كان عرّف بلاوري، فإنه بعث تلك الرواية بالتحديد إلى الواجهة وكانوا قلة على أية حال أولئك الذين حاولوا استكشاف غيرها، ولو فعلوا كان من شأنهم أن يعثروا على أعمال أخرى له لا تقل عنها أهمية. ومن ذلك روايته الأولى «أولترامارين» التي تكاد تكون «أوتوبيوغرافية» أو أنه استعار فيها فصولاً ومواقف و... مغامرات من حياته أعاد تركيبها روائيّاً بأسلوب أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه يتأرجح ما بين كونراد وهمنغواي، ما يمكن اعتباره مديحاً كبيراً في هذا السياق. > من ناحية مناخها وأحداثها، تتابع «أولترامارين» حكاية بحار شاب هو دانا هيليوت الذي ينخرط في الإبحار في سن الثامنة عشرة وسط عالم البحّارة القاسي مع أنه هو آتٍ من عائلة ثرية وبيئة «محترمة» إلى درجة أن أباه الذي سمح له بالإبحار وخوض التجربة، أوصله أول الأمر إلى السفينة «أوديبيوس تيرانيوس» في سيارة ليموزين فخمة أثار مرآها حفيظة بقية البحارة ما دفعهم إلى مناصبته عداء سيمضي جزءاً من مغامرته الجديدة تحت وطأته. والحقيقة ان ذلك الصراع الذي يخوضه دانا ضد الصورة «المنفّرة» المتكونة لدى رفاقه البحارة القساة والغلاظ - أول الأمر قبل ان يكتشف طيبتهم وكرمهم بالتدريج -، هي الموضوع الأساس في عمل سيبدو في نهاية الأمر نصّاً تعليمياً يكاد يخلو من أحداث حقيقية بحيث ان الرواية كلها ستبدو أشبه بيوميات ذلك البحار المغامر الحقيقي الذي سيصبحه دانا تدريجياً. وهو ما حدث مع لاوري نفسه عند بداية انخراطه في عالم البحار الذي سوف يطغى على حياته تدريجياً. > وهنا سيكون من الضروري أن نشير الى أن «أولترامارين» لم تُكتب في الأصل كنصّ روائي، بل على شكل نصين متوسطي الطول نشرهما لاوري اول الأمر متفرقين ثم جمعهما في نصّ واحد بعد ان نسيهما طويلاً لدى صديق له، بل إنه استخدم جزءاً من النص الثاني في صياغة روايته الأشهر «ما تحت البركان»، ومع هذا تُعامل «أولترامارين» اليوم بوصفها رواية مستقلة بعد عقود طويلة من نشرها متكاملة للمرة الأولى عام 1933 علماً أن السيرة والأحداث التي دوّنها لاوري فيها إنما تعود الى السنوات الأولى من القرن العشرين. أي الى حين كان لا يزال هو نفسه مراهقاً وإذ أراد أهله له أن يلتحق بالجامعة صارحهم بأنه يريد ان يخوض حياة مغامرة بحرية قبل ذلك فكان له ما أراد، وهو ما سيُروى لنا في «أولترامارين» بوصفه سرداً لبدايات البحار الشاب دانا هيليوت. فإذا أضفنا الى هذا التطابق الواضح هنا أن دانا من بعد ما يرتبط، في الرواية، بصداقة عميقة مع آندي الطباخ تحل محل عداء شرس ساد بينهما على متن السفينة أول الأمر، سيتجول معه في المرافئ التي ينزلون فيها، بين الحانات وبيوت الهوى كما يفعل البحارة عادة، لكن دانا لن يقرب فتيات الهوى، كما يقول لنا الكاتب، وذلك بالتحديد وفاءً منه لحبيبته جانيت التي تنتظره في الديار وينكبّ في شكل متواصل على كتابة رسائله إليها، سنتذكر إذ نقرأ سيرة مالكولم لاوري نفسه، أنه هو بدوره، حين راح يخوض مغامرته البحرية ما إن خرج من سنين المراهقة، كانت له حبيبة تركها في الديار وراءه وكانت هي السبب المباشر في حفاظه على «عذريته» دوناً عن رفاقه البحارة. بيد أن فراقها لن ينقذه من إدمان الشراب في المقابل. > مهما يكن من أمر عندما يفرغ المرء من قراءة السطر الأخير في هذه الرواية أو في أي عمل آخر لمالكولم لوري، سيكون من العبث له ان يسعى إلى معرفة أي شيء عن هذا الكاتب في أي موسوعة خاصة بالأدب الأميركي، على رغم أن كل ما في رواياته يوحي بأنها نصوص اميركية وأن مؤلفها أميركي. فالواقع ان مالكولم لوري، وعلى خلاف ما يعتقد الكثيرون، كاتب انكليزي. اما سوء التفاهم في شأنه فقد نشأ أولاً من خلال تشبيه الكثيرين له بإرنست همنغواي، وثانياً من خلال واقع ان لوري عاش، بالفعل، ردحاً من أيامه في الولايات المتحدة وبعضها في كندا، وأنه إسوة بزميليه ويليام فولكنر وسكوت فيتزجيرالد أغريَ ذات يوم بالعمل في هوليوود، ولكن ككاتب سيناريو، من دون أن تلتفت هوليوود باكراً الى روايته الكبرى «ما تحت البركان». وذلك حتى مجيء جون هستون، المخرج الأميركي الكبير الذي عرف باقتباساته الفيلمية عن الأدب الكبير، والذي حقق في أخريات سنينه فيلماً رائعاً انطلاقاً من تلك الرواية، فيلماً أعاد لوري وأدبه إلى واجهة الأحداث. > لقد شُبّه لوري، دائماً إذاً، بإرنست همنغواي، ولكن، في حين كتب هذا الأخير خلال حياته روايات جميلة وجيدة، فإن أياً من أعماله، على توازن مستواها، لم يعتبر أبداً مأثرة أدبية كبرى من مآثر هذا القرن. أما «ما تحت البركان» فإنها مأثرة أدبية حقيقية قد لا تضاهيها لديه سوى «أولترامارينا» وإن بحدود، ومن المؤسف ان كاتبها لم يعرف كيف يضع مأثرة غيرهما على رغم تأليفه كتباً وروايات أخرى عدة، ومن هنا سيظل لوري يعتبر «مؤلفاً مقلاً» حتى وإن كان قد اعتبر، بفضل روايته الأشهر، واحداً من كبار كتاب الرواية الذين أنجبهم القرن العشرون. > ولد مالكولم لوري عام 1909 في مدينة بيركنهيد الإنكليزية، وأبدى منذ صغره ولعاً بالبحر وكراهيته للمدارس. ومن هنا لم يكن غريباً ان ينخرط في البحرية وهو بعد في السابعة عشرة من عمره، ويسافر الى شتى الأصقاع وصولاً الى الشرق الأقصى حيث شهد اندلاع الثورة الصينية وأصيب برصاصة في ساقه. ولقد كانت تلك الإصابة سبباً لعودته الى الدراسة ما ان رجع من سفره الطويل، فالتحق بجامعة كامبريدج ونال ديبلوم الدراسات الفنية في الوقت الذي راح يتجول في اوروبا طولاً وعرضاً ويكتشف في نفسه توقاً للكتابة (كسفر من نوع آخر كما قال هو نفسه). > وفي 1933 كان لوري في الرابعة والعشرين حين نشر روايته الأولى «أولترامارينا» وتزوج للمرة الأولى، وبدأ إدمانه على الكحول واهتمامه بالابتعاد جدياً عن بريطانيا فتوجه الى نيويورك وباريس وبدأ يوجد لنفسه مكانة في العاصمتين اللتين كانتا في ذلك الحين عاصمتي الثقافة العالمية من دون منازع. وكانت تلك المرحلة هي التي قادته الى هوليوود، لكنه سرعان ما سئم العمل هناك كـ «مرتزق» فبارح هوليوود متوجهاً الى المكسيك، حيث ولدت لديه فكرة روايته الكبرى «ما تحت البركان». غير انه عاد من المكسيك مباشرة الى هوليوود مذعناً وهناك تعرف الى مرغريت بونر التي اضحت زوجته الثانية وسنده الرئيسي. وأقام الإثنان في كندا، طوال السنوات التي اشتغل فيها على روايته الكبرى التي أصدرها في 1947 فحققت من فورها نجاحاً لم يتنبه له لوري كثيراً، لأنه في ذلك الحين بالذات كان قد غرق نهائياً في إدمانه الذي سيقضي عليه بعد ذلك بعشرة أعوام عاشها بين كحول وسفر وأزمات نفسية. وكل هذا تواصل لديه حتى 1953 حيث عاد ليستقر نهائياً في قرية انكليزية هادئة هي التي مات فيها يوم 29 حزيران (يونيو)1957 مكللاً بالمجد بسبب تلك الرواية الإستثنائية التي أثارت حماسة النقاد والقراء في كل بلد ترجمت إلى لغته، حيث اعتبرت رواية «إنسان القرن العشرين من دون منازع» وفق تعبير الناقد موريس نادو الذي كان من أول الذين عرّفوا بمالكولم لوري في فرنسا. مهما كان فإن نادو يقول ان اسوأ ما في «ما تحت البرلكان» هو أنها ألقت بظلّها الكثيف على أعمال أخرى لمالكولم لوري كانت تستأهل مصيراً أفضل من المصير الذي انتهت إليه، في ظل الرواية الكبرى. ومن هذه الأعمال «أولترامارين» بالطبع، ولكن أيضاً «لونار كوستيك» و «مظلماً مثل القبر الذي يرقد فيه صديقي» ثم بخاصة المجموعة القصصية: «اللهمّ اصغِ إلى صوتنا». وفي شكل عام، كان مالكولم لوري واحداً من كتّاب عصرنا الكبار، لكنه كان، بسفره وإدمانه وقلة احتفاله هو نفسه بأعماله، واحداً من الكتّاب الذين ظلموا أنفسهم.

مشاركة :