بعد محاكمة ميلاديتش: لن يحدث هذا مرّة أخرى

  • 12/9/2017
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

جاء على لسان راشيل بطلة فيلم «إطلاق النار على الكلاب» shooting dogs: «في كل مرّةٍ كنت أشاهد فيها امرأةً بوسنيّة ميّتة -امرأةً بيضاء-، كنت أشعر أنها يمكن أن تكون أمّي، أما هنا فهم مجرد أفارقة ميّتين». تذكّرت هذه العبارة وأنا أتابع محاكمة جزّار البوسنة ميلاديتش، وما أثارته المحاكمة مجدّداً من نقاشٍ حول إمكانيّة إيقاف الإبادة الجماعيّة في المستقبل البشري، وإمكان خلق آليّة دوليّة فعّالة تسمح بالتحرك بسرعة لوقفها. ينطوي هذا الموضوع على جانبين أساسيّين: الجانب الأول: موقف المجتمع الدولي جماعاتٍ وأفراد، ومدى قدرتهم على التعاطف مع أفراد خارج جماعتهم البشريّة التي ينتمون إليها، ومن ثمَّ التحرك لوقف الإبادة الواقعة عليهم من منطلق أن كل روحٍ بشريّة ذات قيمة. الجانب الثاني: جانبٌ نفسيّ يتعلّق بالعمليّات الإدراكيّة التي يتعامل من خلالها البشر مع أخبار الإبادة الجماعيّة، والآليات النفسيّة التي تدفعهم للتعاطف مع الضحايا والتحرّك. كانت الأم تيريزا تقول: «إذا نظرتُ إلى الحشود فلن أحرّك ساكناً، ولكنّني إذا نظرت إلى فرد واحدٍ فسوف أتحرّك»، تسلّط هذه الجملة الضوء على تناقضٍ صادمٍ في تكوين النفسيّة البشرية وميكانيزماتها، فمعظم الناس سيبذلون جهداً أكبر لمساعدة فرد بعينه أو مجموعة صغيرة من الناس، لكنهم مع تزايد العدد يميلون إلى ما يسمّيه عالم النفس الأميركي بول سلوفيتش بالخدر النفسي، حيث يشير إلى أن قدرة التعاطف والرغبة الفعليّة في المساعدة تنخفض في هذه الحالة. كما أنّ الإبادة حدثٌ استثنائي يأتي مخالفاً للتجربة الاجتماعيّة اليوميّة، لذلك لا يشعر البشر بواقعيّته ومدى إلحاحه بمجرّد تلقّيهم المعلومات من وسائل الإعلام، وبمجرّد سماعهم إحصائيّاتٍ تتضمّن أرقاماً صمّاء. ومع أن الصور الواردة قد تحرّك مشاعرهم آنيّاً، لكن إحداث أثرٍ فعليّ في الإنسان العاديّ يتعلّق بمــدى قدرته على بناء صلة عاطفـــيّة مع الخبر، وتُبنى هذه الصـــلّة علــى تجارب الفرد السابقة، وجـــــملة عمليّاتٍ مرتبطة بمخزونات الذاكرة ومكوّنات الثقافة مثل: اللغة، الكلمات، الصوت، الــــروائح، التجارب والذكريات السابقة...، لذلك لا يقتصر الأمر على الأوروبيّين فقط حين يتأثّرون بحدثٍ واقعٍ ضمن قارتهم وعلى بشرٍ مشابهين لهم عرقيّاً أكثر من تأثرهم بحدثٍ يجري في مكانٍ ناءٍ عنهم، وما ينجم عنه من شعورهم بضرورة التحرك لفعل شيء لإيقاف الإبادة، وأكثر من ذلك فإنهم سيرون في الإبادة الجماعيّة في هـــذه الحالة تهديداً لهم ولقيمهم وحضارتهم، فقد علّق طلبة بريطانيّون شباب حين سمعوا بمجزرة سربرنيتشا لأول مرة: «هذه المجرزة وقعت منذ عشرين عاماً فقط، وعلى أرضٍ أوروبيّة ومع ذلك لم نكن نعلم شيئاً عنها، لذا علينا أن ندمجها في فهمنا المتجدّد للتاريخ البريطاني». إضافة إلى ما سبق لا يفوتني أن أشير إلى أن ضعف القدرة على بناء صلة عاطفيّة مع الضحايا تعزّزه أيضاً الصور النمطيّة التي يختزنها بعض الأوربيّين في أذهانهم عن المناطق الأخرى في العالم، مثل أنّ الشرق الأوسط موطن للصراعات الطائفيّة والحروب الدينيّة، وأنّ أفريقيا قارّة متخلّفة لا تهدأ فيها الصراعات العرقيّة والإثنيّة، في مثل هذه الحالات يتحوّل الضحايا في مخيال المتلّقي الأوروبي إلى أرقامٍ في طرفي صراع متساويينِ أخلاقيّاً، هم ضحايا يثيرون الأسى لكنهم يسقطون في صراعات تبدو من طبائع الحياة في تلك الرقعة من العالم. إنّ الوصول إلى قيمٍ كونيّة تؤكد حقّ كلّ إنسان في الحياة الحرّة الكريمة، وإشارة ميثاق الأمم المتحدة إلى ضرورة حماية المدنيّين أثناء الصراعات، لا تعني أبداً أن البشر على أرجاء المعمورة قد تشرّبوا هذه القيم، ويعملون على تطبيقها. وفي هذا السياق، يُناط بالإعلام دورٌ كبيرٌ في إحداث الفارق المطلوب لدى المتلقي من خلال تطوير آليّات تغطيته للأخبارِ التي تسهم في تحريك الرأي العام وتدفعهم بالتالي إلى الضغط على الساسة، فاللعنة الأكبر هنا هي الحسابات المصلحيّة الباردة سواءً أكان الأمر متعلقاً بقادة الدول الكبرى حين يتخذون قراراً بالتحرّك لإيقاف مجزرة، أم بالساسة العنصريّين الذين يتّخذون قرار المجزرة لاعتقادهم بأنها ستحقق مصالحهم وبأنهم سينجون بفعلتهم. ها هو ميلاديتش يحاول أثناء محاكمته التنصّل وإنكار جرائمه التي كان يتباهى بها حين كان في موقعٍ سلطوي وواثقاً أن العدالة لن تطاله، حيث كان يقول: «الحدود تُرسم دائماً بالدم والدول ترمز إليها قبور». ولئن كان المرء يسعد بأن شيئاً من العدالة تحقق للضحايا بإدانة أحد السفّاحين بعد مضي ما يقارب عقدين من الزمن على المجزرة، فإنه يتساءل أيضاً: متى سيمكننا أن نقول بثقةٍ بآدميّتنا، أن هذا لن يحدث مرةً أخرى.     * كاتب سوري

مشاركة :