أشكال برونزية تجابه الفراغ في معرض المصري ناثان دوس

  • 12/10/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

استضافت قاعة «الزمالك للفنون» في القاهرة، معرضاً لأعمال المصري ناثان دوس، تحت عنوان «عاطفة العقل»، يضم مجموعة من الأعمال بخامة البرونز، هي خلاصة تجربة اكتملت معالمها على رغم ما تحمله من مخاض ينبئ بالمزيد. ناثان دوس هو مثّال يبحث عن جذوره، كما يبحث عن هويته الخاصة كفنان يعيش في هذا العصر، تأثر بحصيلة ممتدة من الثقافات المتعاقبة. هكذا يمكننا أن نلخص تجربته النحتية، ما قد يفسر الكثير من مساراتها وانعطافاتها الحادة أحياناً، كالحضور الطاغي للنموذج النحتي القديم بتجلياته التاريخية والدينية كمرجعية بصرية يتعاطى معها نأياً واقتراباً، تماهياً أو تمرداً عليها. اللافت في تجربة ناثان دوس النحتية، تلك المراوحة بين الكتلة الحجرية الراسخة، وبين صياغاته البرونزية المنفلتة من أسر الجاذبية. استغرق الفنان في بداية تجربته في وضع حلول نحتية للجسد البشري، معتمداً على تشريح الهيكل الداخلي له، واتسمت أعماله في تلك المرحلة بالليونة والتخفف من ثقل الكتلة، ومن ثم ما لبث أن انتقل إلى العمل على الأحجار ليشكل بها معالم تجربة جديدة ومختلفة تحتفي بالكتلة وكثافة المادة وانصياعها التام للجاذبية. في تجربة النحت على الحجر، وجد دوس نفسه في مواجهة مباشرة مع النماذج النحتية التي صاغها المصري القديم، وما بين الولع بهذا النموذج والتمرد عليه صاغ منحوتاته على الأحجار الصلبة. بدت أشكاله كأنها عناصر غير مكتملة لأجساد وكائنات وجمادات، متعمداً ترك براح للخامة للكشف عن مكنونها. أكد ناثان دوس في منحوتاته الحجرية على حضور الكتلة التي برع في تشكيلها وماحياً لتلك الزيادات عن أطرافها ليكشف عما تخبئه من أشكال، لكنه بدا كأنه يمسك بلجام الشكل من دون أن يطلق سراحه كاملاً، مبتعداً منه ليقترب منه من جديد. أما تجربته الأخيرة مع البرونز فهي تختلف عن تلك التي خاضها مع الحجر، إذ فرضت عليه الخامة آلية مختلفة من المعالجات والصياغة. فبدلاً من التشكيل المباشر على الحجر، كان عليه صوغ الشكل أولاً بعجائن الطمي وما أن ينتهي منه حتى يضع له قالباً ليعيد صوغه مرة أخرى بالخامة التي يريدها، وهي عملية معقدة يكتنفها الكثير من الصعاب، خصوصاً إذا تميّز الشكل بدقة التفاصيل وتداخلها كما في أعماله المعروضة. لقد مكّنته خامة البرونز من الخروج والابتعاد مِن صياغاته على الحجر، فهي تمتلك إمكانات أكثر لجهة التشكل. وإذا كانت الفكرة تنادي الخامة كما يؤمن دوس، فهي هنا مرادفة للخامة ودالة عليها. إن عاطفة العقل تشي بالتحليق في مسارات وأفكار مجردة، لا يستطيع التعبير عنها سوى بخامة تمتلك من الليونة والخفة ما للبرونز. لم يكتف دوس باختزال الأجساد والعناصر، بل سعى على ما يبدو إلى حصار الفراغ داخل الأشكال نفسها. تطالعنا هنا كائنات حبيسة داخل دوائر وخطوط متشابكة تراوح بين الحدة والليونة، وعناصر ومفردات تتشابك معاً في تكوينات حرة من الخطوط والأحرف والكلمات تاركة مساحة لأطراف أخرى فاعلة ومتورطة في صوغ الشكل، خلافاً للخامة، كالظل والضوء والفراغ، وهي العناصر التي اعتمد عليها دوس في صوغ تجربته الجديدة. إن المواءمة بين ميراث الصورة الثقيل وبين طبيعة الفن في مفهومه الحديث، تمثل إشكالية تواجه الكثير من المثّالين والمصورين على حد سواء، بخاصة في العالم العربي. وهي إشكالية تغذيها مفاهيم عدة تراوح في مدلولها وتفسيراتها المتعددة بين العمق والتسطيح، كمفهوم الهوية على سبيل المثل، فقد تضع أحياناً هذه الرؤية المتباينة لمفهوم الهوية أو غيره من المفاهيم الأخرى حداً فاصلاً بين ما هو فن وما هو غير ذلك. لا يبتعد ناثان دوس من تلك المواءمة بين ميراث الصورة وطبيعتها الآنية، لكنه لا يتعامل مع المنجز النحتي لأسلافه من منطلق التقــديس، بل يضعه نصب عينيه مستلهماً إياه ومضيفاً إليه، ومتحدياً له أحياناً.

مشاركة :