خارطة التجارة العالمية حائرة بين حمائية واشنطن وانفتاح الصيناجتمع وزراء التجارة من مختلف أنحاء العالم في بوينس آيرس في إطار المؤتمر الوزاري الحادي عشر لمنظمة التجارة العالمية. ويأتي هذا الاجتماع في ظروف استثنائية ومصيرية للمنظمة ولاتفاقيات التجارة العالمية، حيث يعمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تغيير لعبة حرية التجارة العالمية التي بنيت عليها العلاقات التجارية بين الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وطورت من اتفاقية الغات إلى أن وصلت إلى منظمة التجارة العالمية.العرب [نُشر في 2017/12/12، العدد: 10840، ص(6)]حمائية ترامب تشعل النيران من السياسة إلى التجارة بوينس آيرس – لم يتسبب رئيس أميركي بفوضى عالمية مثلما يفعل الرئيس دونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2017. ما من ملف دولي، من السياسية إلى التجارة والطاقة إلى المناخ، إلا وتجده متأثّرا بتوجهات ترامب وسياسته. وفيما يتجه تركيز العالم على ما يجري في الشرق الأوسط بعد قرار ترامب بشأن القدس وما أثاره من اضطرابات في وقت بدا فيه أن أكثر الملفات الحارقة في طريقها نحو إيجاد تسويات ومخارج، تتجه أنظار أخرى نحو بوينس آيرس حيث يجري سجال آخر لا يقل أهمية على مستوى المصالح العالمية والدولية، وهو المتعلق بمستقبل منظمة التجارة العالمية. تواجه منظمة التجارة العالمية، التي ساعدت أميركا في تأسيسها في أوائل التسعينات كخلف للاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة في مرحلة ما بعد الحرب، انتقادات حادة من إدارة الرئيس، الأمر الذي يضاعف من مشاكلها وأزماتها الداخلية حيث تشهد أيضا نزاعات بين دول أعضاء فيها والصين. ويهدد ترامب بتفكيك عقود من الدبلوماسية الاقتصادية التي اعتبرها أسلافه أداة استراتيجية. ويرى اقتصاديون أن تخريب المنظمة ومحاولة تغيير قواعد لعبة حرية التجارة العالمية التي بنيت عليها العلاقات التجارية بين الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سيعني فوضى تجارية في العالم حيث سيصبح التنافس غير مضبوط بقواعد كما قد يؤدي إلى المزيد من الضغط السياسي والعسكري، خصوصا في المناطق الهشة كالشرق الأوسط وأفريقيا. ولعبت المنظمة على مدى سنوات أدورا رئيسية في ترسيخ النظام الاقتصادي الراهن وكانت تعتبر أداة ووسيلة لها أهميتها في تنظيم وتشجيع التجارة الدولية وبالتالي إسهامها في عولمة الاقتصاد. لكن اليوم، يرى مسؤولون في إدارة ترامب أن منظمة التجارة العالمية فشلت في المهمة الموكلة إليها وهي إرساء قواعد جديدة للاقتصاد العالمي، بل وقامت بفرض تعريفات غير متطابقة على الولايات المتحدة، مشيرين إلى أن إجراءاتها الحالية لم تصمم أبدا لمواكبة رأسمالية الدولة التي كانت السبب في نجاح الصين.الرئيس الأميركي يسعى إلى تغيير لعبة حرية التجارة العالمية التي بنيت عليها العلاقات بين الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في المقابل، ينظر الكثيرون إلى التوجهات الأميركية باعتبارها تمثل أزمة حقيقية وهجوما يهدد تاريخ المنظمة التي استمرت على مدى عقدين من الزمان ويهدد أيضا نظام التجارة ما بعد الحرب. والخطير في الأمر، وفق شون دونان، المحلل في صحيفة فاينيشل تايمز، أن الهجوم هذه المرة تقوده الولايات المتحدة، التي من المفترض أن تكون الضامن الأساسي لبقاء هذا الصرح. ودافع المدير العام للمنظمة البرازيلي روبرتو أزيفيدو في مؤتمر صحافي مع افتتاح المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية، الاثنين 11 ديسمبر 2017، في بوينس آيرس، على المنظمة. وقال “أؤمن بهذا النظام، ليس لأنه يتسم بالكمال بل لأنه أساسي وهو الأفضل في المتوفر لدينا”. وأشار إلى أن منظمة التجارة العالمية سمحت بتجنب “سياسات حمائية أحادية الجانب وحروب اقتصادية محتملة وكارثة اقتصادية”. يأتي ذلك في وقت يؤكد فيه الجميع على أن منظمة التجارة العالمية فقدت من تأثيرها تدريجيا وتبدو غير قادرة على تسوية النزاعات بين عدد من الدول الأعضاء والصين التي انضمت إليها في 2001. أعرب مسؤولون من دول أخرى عن شعورهم بالإحباط تجاه تصرف الإدارة الأميركية الجديدة مؤكدين على أنه لم يتضح بعد ما هي التعديلات التي تريد الإدارة أن تتم في المنظمة. ونقلت فاينشل تايمز عن سيسيليا مالمستروم، مفوضة الاتحاد الأوروبي للتجارة قولها إن “الجميع مستعد للعمل على إصلاح النظام. ولكن علينا أن نعرف أولا ماذا يعني ذلك. إذا لم يكن لدينا ’نظام فض نزاع’ داخل منظمة التجارة العالمية، ستستشري الفوضى بين الأعضاء، وهذا من شأنه لن يفيد الولايات المتحدة في شيء”. تريد الولايات المتحدة إعادة التفاوض حول الاتفاقات التجارية التي أبرمت بإشراف المنظمة، بعدما انسحبت من اتفاق التبادل الحر لآسيا المحيط الهادئ وأجبرت كندا والمكسيك على إعادة التفاوض حول اتفاق التبادل الحر لأميركا الشمالية. وأوفدت واشنطن إلى بوينس آيرس وفدا بقيادة الممثل الأميركي للتجارة روبرت لايتيزر المفاوض المعارض جدا للمنظمة وخصصوا لنظامها في تسوية النزاعات. وتشكك واشنطن بفاعلية هيئة تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية وتعقد سير عملها، مع أنها واحدة من أسباب وجود المنظمة لأنها تنظر في الخلافات العديدة بين الحكومات حول قضايا الدعم المالي للسلع أو الرسوم الجمركية. وهي تلعب دورا مهما في الحرب التجارية بين المجموعتين الأميركية والأوروبية للصناعات الجوية بوينغ وإيرباص.منظمة التجارة العالمية فقدت من تأثيرها تدريجيا وتبدو غير قادرة على تسوية النزاعات بين عدد من الدول الأعضاء والصين في حال نجحت السياسة الأميركية الراهنة في إضعاف منظمة التجارة بشكل أساسي، ستطلق الولايات المتحدة مبادرة جديدة للاضطلاع باتفاقات ثنائية حول قواعد التجارة، وهو النهج الذي دافع عنه ترامب. ونظرا لكون الولايات المتحدة لا تزال سوقا حيوية لمعظم المصدرين، فإن مثل هذه المبادرة سيكون لها تأثير. وبدأ أعضاء المنظمة بالفعل يفكرون في سريان عمل منظمة التجارة العالمية دون وجود الولايات المتحدة. ففي حالة انسحاب إدارة ترامب تماما من المنظمة، ستسنح الفرصة أمام قوى تجارية أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي للتقدم من دون وجود الولايات المتحدة. وحتى داخل المنظمة هناك بالفعل بعض التغييرات التي تحدث، فيما يرى المحلل السياسي البريطاني بيل إيموت أنه ينبغي للبلدان الآسيوية والأوروبية، بصفة خاصة، أن تستعد للأسوأ من خلال التفاوض على اتفاقاتها التجارية مع بعضها البعض لتستحوذ على النشاط التجاري الأميركي. بعد كل شيء، أخذ زمام المبادرة لتعزيز التجارة وغيرها من الاتصالات التجارية هو أفضل وسيلة لمقاومة الحرب التجارية. ويضيف أنه ومن خلال إحياء اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ دون تدخل الولايات المتحدة، أضحت اليابان ودول آسيا والمحيط الهادئ الأخرى على الطريق الصحيح. ولكن إذا كانت حرب ترامب التجارية وشيكة، فإن هذه البلدان – وغيرها – ستحتاج إلى مضاعفة الجهود في هذا الاتجاه، خصوصا الاتحاد الأوروبي حيث يجد نفسه في حالة ترقب، لأنه أكثر اعتمادا من الولايات المتحدة على التجارة، وخاصة على هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية، والتي قد تحاول إدارة ترامب تجاوزها. ويؤكد دبلوماسي أوروبي أن الخطاب الحمائي الأميركي “أدى إلى تحفيز المفاوضات حول اتفاقات تجارية” التي تتجاوز الولايات المتحدة، وذكر مثالا على ذلك اتفاق التبادل الحر الذي أعلن مؤخرا عن “انجازه” بين الاتحاد الأوروبي واليابان. وأضاف أن “اتفاقا بين الاتحاد الأوروبي وميركوسور لن يكون مجرد معاهدة للتبادل الحر بل اتفاقا جيو- استراتيجيا مهما وإشارة سياسية قوية”. قد تفتح سياسات ترامب الانعزالية في حال إصراره عليها عهدا جديدا للتجارة العالمية، لكن من المؤكد وفق الخبراء أن التوترات الحالية بشأن منظمة التجارة العالمية واتفاقياتها لا يمكن حلها بواسطة اجتماع وزاري أو في وقت قياسي في ظل كل الفوضى التي يعيش على وقعها العالم. لكن هذا لا يعني أن المنظمة وكما يؤكد ترامب عديمة القيمة بالضرورة، بل على العكس من ذلك، ينبغي أن يشكل الوضع الراهن فرصة حاسمة للشروع في عملية التحديث التي تحتاج إليها منظمة التجارة العالمية حتى يتسنى لها البقاء منصة فعّالة للتعاون التجاري الدولي وبناء الإجماع، وأيضا فرصة لمختلف الأنظمة والحكومات لمراجعة تكتلاتها واتفاقياتها بما تقتضيه المصلحة وبما يصون المصالح ويحميها من تقلبات السياسة.
مشاركة :