في كل مراحل التاريخ استخدمت اللغة كوسيلة من قبل المجتمعات لتحقيق عقد اجتماعي، أو أرضية مشتركة للتوافق على قيم ومعايير اجتماعية وأخلاقية مشتركة.العرب مفيد نجم [نُشر في 2017/12/12، العدد: 10840، ص(15)] ارتباط الإنسان الوجودي باللغة أو ارتباطها بنا، يجعل من غير الممكن فهم هذه العلاقة خارج سياقها الوجودي تاريخيا وثقافيا. الرؤية الأحادية للغة تتجاهل ثنائية التأثير والتأثر التي تسم علاقة الإنسان بها، وتطور هذه العلاقة مع تطور الثقافة والمجتمع تاريخيا، أو العكس. في كل مراحل التاريخ استخدمت اللغة كوسيلة من قبل المجتمعات لتحقيق عقد اجتماعي، أو أرضية مشتركة للتوافق على قيم ومعايير اجتماعية وأخلاقية مشتركة. المثال الأبرز في تاريخ البشرية هو ما فعلته الأديان، ومن ثم الأيديولوجيات التي ظهرت في مراحل تاريخية لاحقة. كانت اللغة ومازالت هي الحامل الأساس لهذه القيم والأفكار والتعاليم عبر الزمان والأجيال، لذلك فإن التحول الذي كان يطرأ على هذه اللغة، كان يرتبط بالمحمول الديني أو السياسي أو الثقافي لهذه اللغة. كل الأيديولوجيات السياسية والدينية وظفت اللغة لنشر أفكارها وقيمها وتحقيق أهدافها في المجتمعات التي كانت تتوجه إليها. هذه الوظيفة المثالية للغة جعلتها تكتسب سلطة متعالية، عندما حاول المؤمنون بما تقوله التماهي معها. وفي السياسة كما في الفكر يجري توظيف اللغة للتضليل حينا، وحينا لقول الحقيقة، والحد الفاصل بينهما غالبا ما يكون دقيقا يصعب تمييزه. البراعة في توظيف بلاغة اللغة وقوة تأثيرها في الناس، تجعل من يستخدمها مؤثرا وحاضرا فيها. في هذا المستوى تمارس اللغة سلطتها، لكن هذه السلطة لا تتحقق بمعزل عمن يستخدمها. استخدم القدماء الأمثال والحكايات وسيلة لتكريس ثقافة اجتماعية تحقق انسجام المجتمع، وتوافقه على منظومة معيارية، أخلاقية واجتماعية جامعة، وبذلك تحولت اللغة إلى سلطة وحافظة للتراث الاجتماعي والثقافي. فكَّر الإنسان باللغة، وباللغة جسَّد أفكاره وعمل على نقلها إلى الأجيال القادمة، لذلك كانت اللغة دليلا على تطور الإنسان والحياة الإنسانية. لكن هذا التطور لم يكن ليحدث لولا قابلية اللغة التي نفكر بها على التوالد والتطور من داخلها. وسلطة هذه اللغة لم تكن لتبلغ مداها إلا من خلال كفاءتها بلاغيا، والبلاغة هنا تنبع من الشخص الذي يستخدمها. لقد عززت هذه البلاغة من قدرة أصحاب الأفكار على نشر أفكارهم، لكنها لم تكن بلاغة معزولة عن مقاصدها، أو عن سياقها الاجتماعي والثقافي والعاطفي في كل مرحلة من مراحل التاريخ المختلفة. أغلب الدراسات اللغوية العربية لم تحاول حتى الآن دراسة هذا المستوى من العلاقة، خاصة في مجتمعاتنا، التي لم يزل للغة سحرها وتأثيرها القوي في الفضاء العام. قراءة اللغة في هذا المستوى مدخل مهم لفهم دورها في تشكيل وعينا، وعلاقتنا بالوجود الذي نعيش فيه باللغة. كاتب سوريمفيد نجم
مشاركة :