كان الأدباء فيما مضى يشيدون بدور الحسينيات الثقافي في العراق ولبنان، فهل نجت ثقافتها اليوم، من التعبئة والتسييس، وهل لا تزال تؤدي الدور نفسه؟ هل بين المهتمين الشيعة من يتابع "ثقافة الحسينيات" وطبيعة المواضيع التي تطرح فيها عادة إلى جانب التفاصيل التاريخية لأحداث "مأساة كربلاء"؟ وهل هذه المواضيع ترفع مستوى المستمعين وتنشر الاعتدال والتسامح، وتناسب العصر، وثقافة الجمهور أم العكس؟ كان الأدباء فيما مضى يشيدون بدور الحسينيات الثقافي في العراق ولبنان، فهل نجت ثقافتها اليوم، من التعبئة والتسييس، وهل لا تزال تؤدي الدور نفسه؟ أصدر الأديب والشاعر الكويتي المعروف "فاضل خلف"، قبل أكثر من ثلاثين سنة، كتاباً فيه بعض ذكرياته وانطباعاته بعنوان "قراطيس مبعثرة"، تحدث في هذا الكتاب، وسط الجو الطائفي السائد عام 1985 بسبب الحرب العراقية- الإيرانية والمناخ الكئيب السائد آنذاك، وبجرأة رائدة، عن دور الحسينية في ثقافته الشخصية، وبخاصة توسعة مداركه، في "التاريخ العربي الإسلامي"! يقول "أبو محمد" في بداية المقال: "كنت على موعد مع التاريخ العربي الإسلامي، لا عن طريق الكتب، إنما عن طريق آخر، طريق آخر قد لا يدور على البال، وقد لا يؤمن به البعض، وربما لا يصرح بفائدته كل إنسان في قلب هذه الزمن المتفجر... ولم يكن هذا الطريق سوى منبر الحسين". ويضيف شارحاً ضخامة المعلومات التاريخية التي اكتسبها من الحسينيات: "صدق الإمام جعفر بن محمد عندما قال: مجالس الحسين مدارس علم". ويكمل: "فمن الحسينية وعلى مدى بضع سنوات، اطلعت اطلاعا غنياً على سيرة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى سير خلفائه الراشدين، رضي الله عنهم، وعلى تاريخ الدولة الأموية، وتاريخ الدولة العباسية". ويعترف الأستاذ مشيداً بالفضل فيقول: "ولا أذيع سراً إذا قلت إنني لم أتعلم حرفاً واحداً من التاريخ فوق ما تعلمته من الحسينية"، ولكن هل ما سمعه، رواية محايدة للتاريخ؟ وينسب أبو محمد الفضل إلى الحسينية في بروزه في الفصل والمدرسة وإشادة المعلمين به، فيقول: "وبفضل منبر الحسين كانت الأصابع في المدرسة تشير إليّ بالتفوق، وكان المدرسون بفضل هذا الاطلاع يخصونني بكثير من التشجيع والتقدير، ويتعهدونني بالرعاية والحب، وفي مقدمتهم الأستاذ "فيصل العظمة" الذي كان مديراً للمدرسة الشرقية، التي كنت أحد طلبتها في عام 1942. وكان للأستاذ فيصل العظمة فضل كبير في توجيهي للأدب، وتشجيعي على القراءة المستمرة، وكان يختار لي أحياناً كتبا معينة لقراءتها، وأحياناً أخرى مقالات وقصائد. وكان الأستاذ فيصل العظمة إلى جانب كونه مديراً للمدرسة مدرس التاريخ للصف الذي كنت أنتظم فيه. أما اليوم فهو مستشار في الحكومة الليبية في وزارة العدل، ويزاول عمله هناك منذ أكثر من عشرة أعوام، وقد زارني في تونس وزرته في ليبيا". وتقول "موسوعة الويكيبيديا" عن الأديب المعروف "فاضل خلف حسين التيلجي"، وهو من مواليد 1927، إنه في أثناء سفر والده في عمله، حينما كان الوالد يعمل مأموراً للتلكس أو البرقيات "جال في خاطره أن يفتح صندوقاً للوالد لم يفتحه من قبل قط! فإذا به يجد مجموعة من الكتب كان يجلبها الوالد من سفراته إلى البصرة وعبادان، فبدأ بقراءتها، فكانت هذه الشرارة التي أشعلت نور الأدب لدى أستاذنا الفاضل ذي الـ12 ربيعا في ذلك الوقت، وكان من هذه الكتب ديوان الرصافي وكتب في التاريخ والجغرافيا وعدد من المجالات كالرسالة والهلال، فبدأ أديبنا بكتابة الشعر، إلا أن نصيحة من الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، رحمه الله، جعلته ينتقل لكتابة القصة لسهولة كتابتها مقارنة بالشعر، وهو أول من أصدر مجموعة قصصية في الكويت عام 1955 وكانت تسمى "أحلام الشباب". وقد درس الأديب في المدرسة الشرقية ثم المباركية التي أصبح مدرساً فيها، ثم عمل في "دائرة المعارف"- أي وزارة التربية كما كانت تسمى آنذاك- ثم في "دائرة المطبوعات والنشر"، ثم سافر إلى بريطانيا ودرس فيها ثلاث سنوات. وفي بداية الستينيات التحق بالسلك الدبلوماسي، وعمل ملحقا صحافيا في السفارة الكويتية بتونس، حيث كتب الكثير من مؤلفاته، وبقي هناك أربع عشرة سنة، ثم عاد إلى الكويت فعمل مستشاراً في وزارة الإعلام إلى أن تقاعد عام 1988، وقد قدم في إذاعة الكويت عام 1961، أحاديث أدبية أسبوعية، كما عمل مسؤولاً عن الشؤون الثقافية في جريدة "الرأي العام" ما بين 1984-1990، وقد تعرض في عام 2004 لجلطة في القلب تعافى منها، ولكنه استمر في جوانب من عمله الأدبي. يواصل الأستاذ خلف حديثه وذكرياته في كتابه "قراطيس مبعثرة" عن الحسينيات فيفاجئ القارئ قائلا: "وقد يستغرب البعض أن تكون مجالس الحسين مدارس علم، لأنها عرفت خطأ بأنها مكان مناحة، ومقر بكاء، وساحة نحيب، وفي الحقيقة أن هذا الجانب كان جزءا بسيطا من المحاضرة التي كان يلقيها الخطيب، فإذا كان الوقت المخصص لهذه المحاضرة ساعتين مثلا، فلا ينال العزاء منهما غير ربع ساعة في ختام المجلس". (ص 67). ولم يكن "فاضل خلف" في الحسينية مستمعاً سلبياً مستقبلاً لكل ما يقال وما يسمع... يقول ناقداً معترضاً: "كانت بعض الحسينيات تستعين بالأكفاء من الخطباء الذين لهم باع طويل في المعرفة، واطلاع واسع في التاريخ والأدب العربي وإجادة تامة في الإلقاء، وكان بعضهم شعراء مجيدين ومؤلفين بارعين، وبفضل ملازمتي للمنبر بضع سنوات كنت أكتشف الخطيب الضعيف من الناحية التاريخية، أو من الناحية الأدبية، فكنت بعد انتهاء المحاضرة أجتمع به وأناقشه في بعض أقواله. فكان بعضهم يتلقى الاعتراض برحابه صدر، وتفهم لائق، مع شكر وامتنان، وكان بعضهم يثور ويشكوني إلى المسؤول عن الحسينية، وقد نالني من هذه الصراحة أحياناً شيء غير قليل من اللوم والعتاب، وأحيانا يتجاوز الأمر إلى التهجم والعقاب. فقد كنت برغم صغر السن لا أقبل للمنبر أن يتحول من منبر علم إلى خشبة جهل، ومن مكان خصب للأفكار السامية، إلى مكان تعشش فيه الخرافات والأوهام، ومن مجلس يفترض فيه أن يكون مصدرا للتاريخ الصحيح إلى مجلس تزيف فيه الحقائق التاريخية، وكنت أذكّر المسؤولين دائما بكلمة الإمام الصادق جعفر بن محمد "مجالس الحسين مدارس علم، والجهل والعلم لا يتفقان". وكان مع الأسف النوع الجيد من الخطباء قليلا كأي شيء جيد في هذه الحياة، لأن الجيد غال ونفيس، أما الردي فهو رخيص ومبتذل. لذلك فقد كنت أستبشر إذا اكتشفت أن الخطيب من النوع الجيد، المطلع على بواطن الأمور المزود بثقافة عالية في التاريخ والأدب المتحلي بالأخلاق الحميدة المتصف بحسن السيرة والسريرة وباللياقة واللباقة. ماذا عن "طعام الحسينية ومشروباتها"؟ يجيب فاضل خلف بصراحة فيقول: "لقد كانت الحسينية تستهويني في بداية الأمر بما تقدمه من ضيافة مشهودة. ثم أصبحت هذه المشروبات والمأكولات مع الأيام لا تعني أي شيء بالنسبة إلي، وإنما كان ما يعنيني من ذلك، هو الزاد الفكري الذي تقدمه الحسينية. فكنت أتتبع درس الخطيب بكل انتباه، فإذا أورد رواية تاريخية أو موضوعا أدبيا، أو دقيقة من دقائق الفلسفة، ووجدت نفسي في شوق للمزيد من الاطلاع عليها، والاستزادة منها اتصلت به عندما ينتهي الدرس، وسألته عن مصادرها الأصلية الممكن زيادة الاستفادة منها، فكان أكثر الخطباء يرحب بطلبي ويرشدني إلى مرادي ويساعدني على فهم ما استعصى على مداركي". ويواصل الأديب "اعترافاته" .. فيقول: "وبلغ من تعلقي بالحسينية أنني كنت لا أتخلف عن مجالسها وعلى مدى شهرين في كل سنة إلا في حالة شدة المرض، وما زلت أذكر تلك الليلة الباردة المظلمة والسماء تبرق وترعد وترسل الغيث مدرارا، وكانت الطرقات موحلة الجنبات وليس في السكك إلا الوحشة، فأرغمت المرحومة الوالدة على الخروج من دفء المنزل إلى بردوة الطريق لكي ترافقني إلى الحسينية، وكنت لم أتجاوز العاشرة بعد، ولم يكن في الحسينية ليلتئذ سوى عدد قليل من الرواد الذين لم يقعدهم عن المجيء المطر المنهمر، ولا البرد القارس ولا الظلام الموحش". (ص67)
مشاركة :