< تدور أحاديث شعبية عربية وفلسطينية بعضها هامس وبعضها صاخب تُدين معظم الزعماء على ما وصلت إليه الحال، وعلى كون أن هناك منهم من يعلم مسبقاً، أو أنه تم إبلاغه من الرئيس الأميركي ترامب قبل أن يعلن قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني. لم يتفاجأ بعض الحكام العرب مما فعله ترامب، وربما واكب تطور هذا القرار بصمت وخنوع، ولكن تبقى الحقيقة أن ما يتم فعله الآن فلسطينيا وعربياً وإسلاميا إنما هو رد فعل ضعيف يخلو من أي قيمة حقيقية مقارنة بالفعل الذي تم، في محاولة أميركية واضحة لـ «شرعنة» الاحتلال واغتيال قرارات الشرعية الدولية كافة. إن سطوة الاحتلال وجبروت القوة يجب ألا تعني توافر الحق في فرض إرادة القوي، فأولوية الحق هي ما يجعل للقانون سطوة تفوق قوة وجبروت السلاح، وما فعله الرئيس الأمريكي هو إلغاء «أولوية الحق» لمصلحة «سطوة القوة» وإعطاء ما أسماه «بالأمر الواقع» الشرعية التي يفتقدها. إن القرار رقم 478 الصادر عن مجلس الأمن يرفض مثل هذا الأمر بالتحديد، والقرار رقم 2334 يرفض أي تغييرات في الأراضي المحتلة ومنها القدس إلا باتفاق الأطراف من خلال المفاوضات، وترامب ضرب كل ذلك بعرض الحائط، ومن هنا كان هناك اجماع من الأطراف الدولية كافة على رفض قرار ترامب والتأكيد على أنه يجافي الشرعية الدولية. إن هذا الرفض الدولي المدوي قد يقلب السحر على الساحر، وربما ترى إسرائيل نفسها معزولة مجدداً نتيجة لقرار يرفضه الجميع ويؤكدون من خلاله عدم شرعية الاحتلال وإجراءاته وعلى حق الفلسطينيين في القدس، وقد يكون في ذلك مدخل لنهج جديد في العمل لأجل فلسطين، ولكن تبقى الحقيقة أنه لا يوجد حل عربي أو إسلامي لمشكلة فلسطين. الحل يجب أن يكون فلسطينياً بالدرجة الأولى، وبالتحديد من داخل فلسطين نفسها، أما الباقون فدورهم داعم، ولكن يبقى الأساس وهو ألا يقوم أحد من الباقين، سواء فلسطينيا أم عربيا أم إسلاميا، بطعن قضية فلسطين في الظهر، واستعمالها ورقة تنازل (ولا أقول تفاوض) في علاقة ثنائية آثمة بين أي من تلك الدول وأميركا أو إسرائيل مثلاً. وبصراحة، على الجميع أن يتعلم درسه، خصوصاً الفلسطينيين تحت الاحتلال، أن العالم عبارة عن غابة مملؤة بحكام كل منهم يريد أن يقضم قطعة من قضية فلسطين أو أن يتاجر بها، وشعوب مفككة غير قادرة على فرض إرادتها على حكامها، وألا يسلموا زمام أمورهم بالتالي لقيادة قد تكون راغبة في الولوج في مسار يقبل بالاحتلال وشروطه في مقابل مكاسب شكلية / أو شخصية كما كانت عليه الحال، وأدت إلى اتفاقات أوسلو وتأسيس سلطة فلسطينية تابعة للاحتلال بشكل عملي وأمني وما زالت. دور فلسطينيي الداخل مشروع، وما يقومون به من أعمال تهدف إلى إزالة الاحتلال هي أعمال مشروعة، إذ لا يستطيع أي نظام أو سلطة أو أي هيئة دولية أن تمنع شعباً تحت الاحتلال من العمل على إزالة ذلك الاحتلال، ومن هذا المنطلق فإن الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت أهم وأكثر وقعاً وتأثيراً على مجرى الأحداث، واكتسبت عطف العالم وخلقت بلبلة وحالاً من الفزع داخل أوساط مجتمع الاحتلال الإسرائيلي، في حين أن الانتفاضة الثانية والتي تم تسخيرها من القيادة الفلسطينية في حينه لأهداف خفية لم تحظ بالتعاطف والتأييد نفسه والنتائج التي حصلت عليها الانتفاضة الأولى والتي جاءت نقية من شوائب تلاعب القيادات. إن مرحلة ما بعد «اغتيال القدس» على يد رئيس الولايات المتحدة يجب أن ترتقي موضوعياً إلى مستوى الأخطار المتزايدة، وهذه المرحلة يجب أن تتسم بالوضوح والشجاعة اللازمين لوضع مسار جديد وأهداف واضحة. وانطلاقاً من ذلك، فإن برنامج العمل للمرحلة المقبلة والمستقبلية يجب أن يستند الى الحقائق التالية: أولاً: إعادة التأكيد على أن الولايات المتحدة ليست وسيطاً محايداً ولن تكون كذلك أبداً، وهي منحازة استراتيجيا لإسرائيل انحيازاً كاملاً، كما أن إسرائيل لا تريد ولا ترغب في أي تسوية سياسية مع الفلسطينيين تتضمن أي شكل من أشكال الانسحاب من أي بقعة من فلسطين. ثانياً: الاعلان عن سقوط نهج المفاوضات والتسوية السياسية مع الاحتلال الاسرائيلي. فضمن مُحدَّدات معادلات القوة السائدة حالياً فإن ذلك النهج لن يؤدي الى أي مكسب للفلسطينيين، بل سيؤدي الى خدمة الاحتلال و«شرعنَتِهِ». ثالثاً: الاعلان عن سقوط القيادات الفلسطينية المرتبطة بنهج المفاوضات والسلام، واستقالة أو إقالة كل القيادات والمسؤولين الفلسطينيين الذين آمنوا بذلك النهج وربطوا حياتهم السياسية به، وطفوا على سطح الأحداث والقيادة بحكم إيمانهم بذلك النهج. رابعاً: ربط الإعلان بسقوط نهج المفاوضات والتسوية السياسية بإلغاء كل ما تمخض عن ذلك النهج من اتفاقات ومؤسسات، بما في ذلك اتفاقات أوسلو والسلطة الفلسطينية نفسها بكل مؤسساتها، خصوصاً الأمنية والمتعاونة مع الاحتلال الاسرائيلي. خامساً: الاعلان عن عودة منظمة التحرير الفلسطينية قائدة للنضال الفلسطيني، وتأكيد نهجها النضالي الأصلي واستمراريته كمدخل وحيد ورئيس للعمل الفلسطيني، وكما ورد في الميثاق القومي الفلسطيني، خالياً من أي تعديلات قد طرأت عليه، وبالتالي الإعلان عن فك أي ارتباط بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، بما في ذلك أي قيادات مشتركة أو ارتباطات تنظيمية أو مؤسسية. سادساً: مطالبة حركة فتح والفصائل الفلسطينية بتطهير نفسها والتخلص من القيادات والعناصر المؤمنة بنهج التسوية السياسية والمفاوضات والتعاون مع سلطات الاحتلال، واعتبارهم خارج إطار المصلحة الفلسطينية والمستقبل الفلسطيني من دون أن يعني ذلك تخوين أحد بقدر ما يعني التأكيد على فشل النهج الذي يؤمنون به. سابعاً: اتخاذ قرار عربي مُلزم صادر عن مؤتمر قمة استثنائي، باعتبار إسرائيل العدو الأكبر والأساس، ورفض أي إيحاء أو مسار بإمكان التحالف معها ضد أي دولة أخرى مهما كان السبب. فخطر إسرائيل على العرب ومستقبلهم هو أكبر من أي خطر آخر، وبالتالي اعتبار أي مبادرات عربية في اتجاه فرض أو تسويق نهج التسويات السياسية لاغية، بما في ذلك مبادرة السلام العربية، وسحبها جميعاً من التداول، علماً أن إسرائيل ضربت بها عرض الحائط. أما أهداف برنامج العمل للمرحلة المقبلة فيجب أن تسعى للوصول الى ما يلي: أولاً: الهدف السامي في التحرير والتخلص من الاحتلال، وإلى أن يتم ذلك العمل على تقويض أركان نظام التمييز العنصري القائم ضد الفلسطينيين تحت الاحتلال. ثانياً: اعتبار المسؤولية الأساسية والأولى للوصول إلى هدف التحرير هي مسؤولية الفلسطينيين تحت الاحتلال، واعتبار مسؤولية بقية الفلسطينيين في المهجر وكذلك العرب والمجتمع الاسلامي والمسيحي والإنساني مسؤولية مُسانِدَة وداعمة، من دون أن يعني ذلك تملُّك الحق في تقرير أي حل سياسي للقضية الفلسطينية وفرضه على الفلسطينيين. ثالثاً: اعتبار أي نهج نضالي يختطه الفلسطينيون تحت الاحتلال نهجاً مشروعاً ومنسجماً مع الحق المشروع للشعوب الواقعة تحت الاحتلال في مقاومة ذلك الاحتلال، والسعي الى التخلص منه، وفي هذا السياق فإن الفلسطينيين تحت الاحتلال مطالبون بالتخلص من إرث ومفهوم «الاحتلال الهادئ والمنضبط»، والذي فرضته القيادات الفلسطينية السابقة كثمن لاتفاقات أوسلو. رابعاً: إن اسقاط القرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاحتلال، وعلى خطورته، يجب ألا يعتبر هدفا وحيداً للنضال في المرحلة المقبلة، الهدف يجب أن يركز على إلغاء الاحتلال بالوسائل المتاحة كافة، وانطلاقاً من شرعية القرارات الدولية والمبدأ القانوني الذي ينص على أن «ما بُني على باطل فهو باطل» فإن القرار الأميركي يعتبر باطلاً في أصوله. هذه بعض المؤشرات التي يجب أن تكون نِبْراساً هادياً للجميع في المرحلة المقبلة. إن تَملُّك الشجاعة للاعتراف بالخطأ أمر أساس للنجاح في الانتقال إلى مسار جديد قد يكون أكثر فاعلية. هذا ما يتوجب على الفلسطينيين فعله وعلى العرب فهمه واستيعابه. * أكاديمي.
مشاركة :