صالح اللُّخْمِي.. زعيم الشعر الشعبي

  • 12/16/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

حَمَل إلَيَّ البريد بتاريخ الرابع والعشرين من شهر ربيعٍ الأول مِن سنة ألفٍ وأربعمائةٍ وتسعٍ وثلاثين من الهجرة النبوية الشريفة ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، نسخة من كتاب شِعْر الشاعر الكبير : “صالح اللُّخْمِي ، حياته – شعره” . أعده : الأخ العميد : علي بن ضيف الله بن خرمان الزهراني ، فألفيته مِن قراءته الأُولَى يلقي الضوء على حياة هذا الشاعر منذ بداياته الأولى مرورًا بنشأته وقوله الشعر منذ نعومة أظفاره ، وتدرجه في قوله حتى غدا شاعرًا مجيدًا يُشار إليه بالبنان ، وقد قرأت الديوان ، وفي نيتي قراءته مرة أخرى لِما تضمّنته قصائده من معاني الرجولة والشهامة والدعوة إلى مكارم الأخلاق التي دعا إليها ديننا الحنيف إلى جانب الوضوح في معانيه الشعرية بعيدًا عن الرمزية التي ينتهجها بعض الشعراء والتي تترك القارئ في حيرة من استخراج المعنى الحقيقي لِما يريد الشاعر إيصاله لمستمعيه ، فمزيد مِن الشكر والتقدير لسعادة العميد على هذه الإضافة القَيِّمة للمكتبة العربية لهذا الشاعر المبدع ، وعلى هذا العرض الجيد الماتع الذى قدّمه العميد لأغراض شعر هذا الشاعر الْمُفْلِق ، وهي هدية غالية من الأخ العميد ، لا تعادلها هدية لمن يعرف قيمة الأدب ، وقد قال الشاعر المشهور أبو رزق رحمه الله : “ثلاث من الهدايا لا تُرَد : الكتاب والطِّيْب والسِّواك” . فجزى الله الْمهْدِي على هذا الإهداء خير الجزاء . بخيرِ الهدايا جُدْتَ يا خيرَ مُنْتَمٍ … إلى خَيرِ بادٍ في الأنَامِ وحاضِر وقد هيأ الباري عز وجل لهذه القصائد الجميلة أديب أريب مثل الأخ العميد علي بن ضيف الله الزهراني ، فوضع النقاط على الحروف ، ورسم للحرف صورة ملموسة يعرفها الجاهل والمتعلم ، فلم يترك بعده مقالا لقائل ، ولا أقول هذا مجاملة لهذا الرجل فهو بعيد عنها ، ولست في مقام تسجيل شهادة له ، فغيري يعرف تعامله مع الناس وأسلوبه العذب وعباراته السلسة المنتقاة وبُعْدُه عن المجاملات، وقد وجد الأخ العميد شِعْرًا متَّفِق المعاني واضح الدلالة حسن العبارة ، سلس الأسلوب ، فأفرغ عليه من شرحه ما كشف عن حسن معانيه وجودة مبانيه في أسلوب أدبي حوى الكثير من الأساليب البلاغية . وفكرة الكتابة عن رموز الشعر في منطقة الباحة بشطريها الزهراني والغامدي ، هي فكرة رائدة لتخليد ذكراهم ، ولتعريف الجيل الحاضر المنصرف في الغالب عن تراث قبيلته إلى أمور هي في الواقع بعيدة عن عاداتنا وتقاليدنا الموروثة ، كما أنّ هذا الكتاب وغيره من كتب التراث تُعرِّف الأجيال القادمة برموز الشعر في منطقتنا ، وتحافظ على جسور التواصل بين ماضينا المجيد وحاضرنا السعيد . ولعل أقدم محاولة لتدوين الشعر الشعبي في منطقة الباحة هو كُتَيِّب لشاعر من قبيلة غامد وهو الشاعر : أحمد بن عطية الغامدي ، رحمه الله ، الذي غادر وطنه وعمل جنديًّا في الجيش الأردني سنة (1344هـ) ووافته المنية في الأردن سنة (1365هـ) بعد مرضٍ عُضَال ، وقد قام بنشر شعره بعد موته : سعد محمد الهلالي ، بالاشتراك مع : سعيد محمد العمري ، ولا أدري إن كانا من أقربائه أم كانا من زملائه في العمل ، واللافت في هذا الكتيب أنّ من ضمن قصائده قصائد محاورة على لسان الشاعر بين السيف والبندقية ، وبين الجمل والسيارة وقصيدة مؤثرة بعث بها من الأردن وهو مريض إلى ابن عمه : حسين الغامدي ، ثم تَوَالَى بعد ذلك نشر الدواوين الشعرية لشعراء المنطقة الشعبيين من زهران وغامد . وفي الحقيقة فإنّ ما نُشِر من هذه الدواوين يعتبر يسيرًا إذا ما قُورِن بكثرة شعراء المنطقة في سراتها وتهامتها ، والمرجو من شبابنا المثقف البحث عنه في السهل والجبل وتوثيقه قبل أن يزول ، وهناك أدبٌ أُهْمِلَ ألَا وهو أدب المرأة ، فلم نر أحدًا يهتم بنشر شيء من شِعْرِها الشعبي ، رغم كثرة ما نقرأ منه الآن في مواقع التواصل الاجتماعي ، فهو في الواقع لا يقل جودة وأصالة عن شعر الرجل ، وقد يفوقه في بعض الأحيان لِمَا للمرأة من خصوصيات ليست للرجل ، فقد يجور عليها زوجها أو حَمَاتها ، أو يتم طلاقها بطريقة قهرية أو تُعَنِّس ، أو تُعامَل بطريقة وحشية من قِبَل بعض أقاربها ، فينتج عن ذلك قصائد تجيش في صدرها تعبر عن واقعها المرير ، جاء في كتاب : أنوار الربيع في أنواع البديع 310 : ذكروا أنَّ النابغة الذبياني كان يجلس للشعراء في سوق عكاظ وينشدونه فيفضل من يرى تفضيله . وأنشدته الخنساء في بعض المواسم قصيدتها التي مطلعها : قذى بعينيك أم بالعين عوار … أم أوحشت إذ خلت من أهلها الدار فأعجبه شعرها فقال : والله لولا أن هذا الأعمى – يعني الأعشى – أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء هذا الموسم . وفي رواية , لقلت : أنك أشعر الجن والأنس” . وقد حفظتْ ذاكرتي من كبار السِّنِّ ، وأنا صغير آنذاك قصيدة لمولاةٍ من موالي المنطقة اسمها “سَعِيْدَة” ، شاعرة كانت تحضر المناسبات وتقارع الشعراء ، فحضرتْ مناسبة فيها جمع من الشعراء ، فلمّا رأوها ازدروها وتغامزوا على طردها بقصيدة تحرجها ، فرأت في عيونهم ما يدل على ذلك فما كان منها إلاَّ اندفعت أمام مقدمة الحفل قائلة : تَقُلْ سَعِيدهْ ليت لي ألفَ بابور وكُلّ بابورٍ عليه ألف تُرْكِي وكل تُركيٍّ عليه ألف كَمْرَا وكل كَمْرٍ فيه ميْتَيْن حَبَّة وكل حَبَّهْ صرْفَها أربعينا بالله يا شُعَّار كم هي دراهم فلم يستطع أحد منهم الرد عليها وأرادوا تعجيزها فَعَجَّزَتْهم ، وهابوها جميعًا ثم انسحبت وتركتهم في حيرة من أمرهم . فإذا كانت هذه الشاعرة تعرف مبلغ الدراهم فهي عبقرية سبقت الحواسيب الضخمة بعقود طويلة ، وإذا كانت تجهل ذلك ، فيكفيها سرد هذه العملية الحسابية بطريقة منطقية إلى أنْ وصلت بها إلى ذلك العدد المهول . ولذا نود من أحد مثقفينا الشباب ، الإقدام على جمع شعر هؤلاء الشاعرات الذي لا يقل أهمية وجَودة عن شعر الرجال فهو من التراث الذي يكاد يُنْسَى . أمَّا شاعرنا صالح بن محمد اللخمي ، فقد طرق جميع فنون الشعر المعروفة بالسراة ، عدا طَرْق الجبل ، واعتقد أنه صنع قصائد لهذا اللون، لأنّ شاعرية الشاعر لا تقف عند لون معين ولعل العميد علي ، اكتفى بالمشهور عنه . وشعره بحق يعطي صورًا حِسِّية ملموسة لمن تتبعه فهو يجسد المعنى في شعره أيما تجسيد ، ويبعث فيه الحركة كأنك تراه يتراقص أمام ناظريك ، كيف لا وقد عاش في وسَطٍ كلهم شعراء ، حتى إنَّ مَن يقرأ سيرته في هذا المؤلَّف يكاد يرى شعراء القبيلة وكأنهم محصورون في قُرَى بَالْحَكَم الفخذ الذي منه شاعرنا ، لكثرة ما خرج منها من شعراء ، فلا غرو أن يقتفي آثار الأموات ، ويسير على خطى الأحياء بعزيمة وثبات ووجود الشاعر في القبيلة عند العرب يُعَد مفخرة من المفاخر التي تباهي بها القبائل ، لأنه لسان حالها في الحرب والسلم ، والمنافِح عن أنسابِها ، والمناضلُ عن أحسابها. جاء في كتاب “المزهر في علوم اللغة وأنواعها 2/401″ : قال ابنُ رشيق : وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر ، أتت القبائل فهنَّأتها بذلك وصنعت الأطعمة ، واجتمع النساء يلعبْن بالمزَاهِر كما يصنعن في الأعراس ، وتتباشر الرجال والولْدَان ، لأنه حِماية لأعراضهم ، وذَبٌّ عن أحسابهم ، وتخليد لمآثرهم ، وإشادَةٌ لِذِكْرِهِمْ وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد ، أو شاعر ينبغ فيهم ، أو فرس تُنتج” . أمّا شعره للمتأمِّل فلا يخرج عن معنى بديع ، ولفظ فصيح ، واضح الغرض سهل الفهم ليس فيه غموض ولا تعقيد ، وهو لا يحتاج إلى إيضاح معانيه ، فكلها معروفة لمن تأمَّل ، صاغه بعبارات جميلة ذات معاني رفيعة ، كما قال الشاعر أبو تمام : فكائن فيه من معنى بديع … وكائن فيه من لفظ بهي وشعره غزير يتنوع بين الفخر والمديح والحماسة والكرم والإيثار والتضحية بالنّفْس والنّفِيس، إلى جانب طغيان النُّصْح والإرشاد والحكمة والإصلاح والمكارم الحسنة على أغلبه ، وقد أفرد قصائد عديدة في حب الوطن والإشادة بحُكّامه ، والالتفاف حولهم لتفويت الفرصة على المتربصين به ، وألقى قصائد عديدة في مدح قبائل زهران وغيرهم ، كما أنّه حمل هَمَّ الوطن العربي من محيطه إلى خليجه ، وما يجري فيه من أمور يفرح لها العدو ، فله قصائد في حادثة اجتياح العراق لدولة الكويت ، ثم عاد ورثى حال العراق بعد أن دَمّرت أمريكا قوته التي ظن صَدَّام أنها لا تُقهر ، بل استعمرته وجعلت من بين أفرادها رئيسًا لدولة العراق العربية ، وقصائد أخرى أفردها للقضية الفلسطينية المزمنة ، واحتلال أرضهم من قبل اليهود الغاصبين لهذا الوطن السليب ، وما يمارسونه ضدهم من ظلم وبطش وقتل ، وأخيرًا تلك الطَّامّة الكُبْرى التي نزلت على رؤوس العرب والمسلمين قاطبة نزول الصاعقة، ألاَ وهي اعتراف رئيس أمريكا (ترمب) الْمُتَعَجْرِف، بضغط من اللوبي اليهودي بمدينة القدس المقدسة لتكون عاصمة لذلك الكيان الظالم ، كما أنَه لم يغفل مرور رياح ما يُسمى بالربيع العربي ، على عدة بلدان عربية منها (ليبيا وتونس ومصر وسوريا واليمن) فَدمَّرتها – ولا تزال إلى الساعة تدمرها – فأرادوا بها رياحًا طيبة ، فانقلبت إلى ريح عقيم تدمر كل شيء بأمر ربها . فكانَتْ صَيحَةً لم تُبْقِ شَيئًا … بوادي الحِجْرِ وانْتَسَفَتْ رِياحَا وتَعدّت همومه خارج الوطن العربي ؛ حيث دافع بعدة قصائد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ضد ذلك الرسام النصراني الدنمركي اللئيم ، وذكر اهتمام العرب بموت “ديانا” تلك البريطانية التي أشغلتهم عن الاهتمام بقضاياهم المصيرية ، وأخذت منهم الوقت الكثير في التخمين والتحليل في سبب موتها ولماذا وكيف ؟ وانتقد في العديد من القصائد تدخل دولة الرافضة “إيران” السافر في الشؤون اليمنية ، وإطلاقها مجموعة صواريخ على المملكة العربية السعودية بأيدٍ حوثية أثيمة ، وله عدة قصائد اجتماعية كموضوع الكفالة وما تسببه من مشاكل بين الأصدقاء ، حتى إنها تحدث البغضاء والفُرْقة بين بعض الأقارب ، وتطرق في قصائده إلى البَطَالة وما تسببه من مفاسد وانحراف للشباب ، مصداقًا لقول أبي العتاهية : إِنَّ الشَّبَابَ والفراغ وَالْجِدَة … مفْسدَةٌ للمرءِ أَيُّ مفْسدَة وتعمل على تعطيل التنمية بشكل عام ، وله في عقوق الوالدين الذي تَفَشَّى في هذا العصر قصائد عِدَّة ، وشَدَّد على الصَّداقة وأهميتها في توثيق الروابط ، ونَدَّد بغلاء المهور والتبذير المصاحب لحفلات الزواج ، وتأسَّف على فقدان التعاون بين الناس الذي كان سائدًا بين أفراد مجتمعنا الأول ، وتحدث في عدة قصائد عن كثرة الطوائف المذهبية في عالمنا العربي ، وما لها من تأثير سلبي على وحدة الأمة الإسلامية ، ونرى له قصائد كثيرة يدعو الله عز وجل فيها أنْ يهدي المنحرفين إلى جادّة الصواب، وله أيضًا عدّة قصائد يدعو فيها إلى توثيق بعض العادات الحسنة التي كانت سائدة في المجتمع الزهراني ، وله في كل حادثة مَرَّتْ على العالم الإسلامي أكثر من قصيدة ، وهكذا الشاعر يسجل الأحداث من حوله ، وينتقد أو يشيد بكل حادثة تمر ، وقد قيل : إنما سمي الشاعر شاعرًا ، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره.. ويظهر للقارئ مِن شعره أنه يَبْدَع القصيدة ويَرُدُّ فيها ، أو يبدع هو ويرد غيره ، أو يرد على بَدْع غيره ، بمعنى أنه لا يعجزه القصيد في كل حالٍ من الأحوال السابقة سواء في دِيرته أو في أي مكان من الجزيرة العربية ، وعلى كثرة الشعراء المبدعين المتقدمين من شعراء الرعيل الأول أمثال : محمد بن ثامرة ، وعيفان الجعيرة ، وجريبيع بن صالح وغيرهم ، فهو لا يقل عنهم أصالة وجزالة ، ولذا فقد خلع عليه شعراء عصره تلك الأوصاف التي ذكرها المؤلف عنهم ، اعترافًا منهم بشاعريته الفذّة ، ولقد حضرتُ له أكثر من مناسبة فإذا هو كالصقر المحلق في جو السماء ، والشعراء من حوله يأتمرون بأمره ولا يتقدّمونه بالإنشاد إلاَّ بعد أن يأذَن لهم ، وأول ما رأيته في حفل زواج : رَدّاد بن سعيد بن رَدّاد الزهراني، بمدينة الدمام ومعه عدة شعراء أذكرُ منهم الشاعر : هَذَّال رحمه الله ، فأعجبتني رَزَانَة الرجل ، وجَودة شعره ووضوحه لدى سامعيه ، فأيقنت أنَّ بلاد زهران وَلُودٌ ليس للشعراء فحسب بل لكل طبقات المجتمع . وبالجملة فلم أر في شعره كلمة نابية أو لفظة جافية أو تنافرًا بين اللفظ والمعنى ، أو هجاء أحد أو الانتقاص منه ، أمَّا الْخَبْوُ الذي تَطرَّق إلى ذكره الأخ العميد ، فعلمُ ذلك عند الله ، ويصدق على شاعرنا قول حيدر الحسيني ، كما ورد في كتابه ” العقد المفصل 32 : ” هو في جميع فنون الشعر طويل الباع ، غزير الاطلاع ، سمح البديهة ، حسن الروية ، صادق النظرة ولود الفكرة ، رقيق حاشية النظم” . وهكذا نحسبه والله حسيبه . وفي الختام أرجو للعميد علي بن ضيف الله ، وللشاعر صالح اللُّخْمِي ، طولة العمر في طاعة الله عز وجل ، وأنْ نرى في قادم الأيام أعمالا بمستوى هذا العمل الرائع ، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل . في : 26/3/1439 هـ . بقلم / علي بن محمد بن سدران الزهراني albahanews.info/47674376

مشاركة :