تشكل رواية "السائرون نياما" للروائي الراحل سعد مكاوي واحدة من أهم الروايات التي صدرت في أوائل الستينيات من القرن الماضي، والتي استلهم فيها مكاوي فترة من تاريخية كانت فيها مصر ترزح تحت وطأة قمع وفساد المماليك ليسقطها على ما شهدته مصر في فترتي الخمسينيات والستينيات؛ أي قبل وبعد ثورة 1952، وقد جاءت مناقشتها من المناقشات المهمة أيضا التي شهدتها فعاليات المؤتمر العام لأدباء مصر في دورته الـ 32، حيث قدم د. رمضان سيف الدين رؤية متكاملة للرواية من خلال رصده للفترة التي ولدت أفكارها ورؤاها، حيث قدم رؤية للعلاقة بين النص والأديب والمجتمع، والنص بما يحمل من دلالات الجماعة التي ينتمي إليها تؤكد رؤية العالم، والأديب كحامل لهذه الرؤية ومبدع لهذا العمل ووسيط بين الجماعة التي ينتمى إليها والمجتمع الذى تتفاعل معه. رأى سيف الدين أن بنية النص الروائي في رواية "السائرون نياما " تنقسم إلى شقين ما بين قمة الحياة الاجتماعية التى يتنافس عليها المماليك في حالة هي أشد حالات الصراع على السلطة والجلوس على الأريكة السلطانية، وبين قاع الحياة الاجتماعية حيث تحاول الطبقة الدنيا من عامة الشعب المصري؛ الصراع مع الواقع من أجل الفتات من الطعام، فالسلطان وأعوانه ووزراؤه وأتباعه من الولاة والأمراء والملتزمين - وهم الصفوة - يعيشون في قمة الترف الاقتصادي، فهذه الطبقة تملك كل ما في المجتمع من سلطات سواء سياسية أو اقتصادية أو قانونية أو عسكريه، والوضع الاقتصادي قد هيئ تماما ليظل في يد المماليك دونما تداول بينهم وغيرهم. وتتسلط الطبقة العسكرية وحاشيتها المملوكية على الحكم ويدور فيما بين جميع أفرادها صراع ومؤامرات ودسائس وحروب داخلية للوصول إلى الولاية والتي تضم بين أفرادها مجموعة من الوصوليين من المسلحين والمقربين من الوالي الذين ينشرون الذعر في كل مكان ونهارهم في سحق الأمة التى من المفترض عليهم حمايتها، ليلهم بالخمر والسكر والعربدة والتلصص في الشوارع وهم مشغولون عن إدارة أموال الدولة في التنمية بالصراع فيما بينهم وهم على وعي بدورهم في العمل من أجل الوصول إلى السلطة، وعلى وعي بما يقومون به من تخريب في البنية الداخلية الاقتصادية للدولة. والوعي عند أفراد هذه الطبقة هو وعي بمتطلبات البقاء في السلطة وتوزيع الحقائب السلطانية على الوزراء. وأضاف إن القاعدة الأساسية للثروة هي الأرض، والتي هي ملك للحاكم أو الوالي، ومن يأتي بعده، فالسلطة السياسية تملك في يديها مقاليد الحياة الاقتصادية، فالأرض مملوكة ملكية اسمية للسلطان، أما فعليًّا فالمماليك يتقاسمون البلاد بحيث إن كل واحد منهم يختص ببضعة قرى يقسم الأراضي فيها بين الفلاحين المقيمين عليها، ويلتزم بجمع الضريبة المستحقة عليها، ويمنح في سبيل ذلك أرضا يستغلها ويسخر فيها الفلاحين بدون أجر مع إعفائه هو من الضريبة، ومسموح له أن يحتفظ بالفرق بين ما يدفعه وما يجمعه من الفلاحين، وهذا الوضع منح الملتزم سلطات اجتماعية وسياسية فكان يحكم أرضه وسكانها بطريقة لا إنسانية، فمن حقه العطاء والمنع عن الفلاحين الملاحين المقيمين في أرضه وتسخيرهم للعمل بدون أجر. وجوهر هذا النظام هو انتزاع فائض هذا الانتاج الزراعي من خلال إطلاق يد الملتزم في جمع الضرائب المقررة على الأراضي من ناحية، واستغلال الفلاحين من ناحية أخرى. وحق الالتزام يتمتع بحق توريث أراضي الالتزام ونقلها إلى أولاده من بعده، ونظام الالتزام هو التنظيم الاجتماعي لاستنزاف فائض الإنتاج الزراعي، إذ يصل ذلك الفائض إلى كل من السلطان العثماني، والكاشف مدير المديرية، ثم يحتفظ إدريس بالباقي. ورأى أن الروائي سعد مكاوى أتى ببنية من الزمن الماضي تتماثل مع بنية الزمن الحاضر من حيث تكوين مفردات الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إذ تقوم الطبقة العليا بعملية استحواذ سياسي على السلطة وجميع المناصب القريبة والمؤثرة فيها، واستحواذ اقتصادي على جميع الأراضي التي تزرع والتي هى كل الثروة، واستحواذ على كل ما من شأنه أن يحدد الدور الاجتماعي في مصر، ويبقى الوضع كما هو دون ما تداول. وتتميز هذه الطبقة بوعيها التام تجاه السلطة وإدراكها لقيمة موقفها من أفراد الطبقة الكادحة. وتطرق سيف الدين للبنية الخارجية للعالم الروائي: المجتمع المصري منذ عشية ثورة يوليو 1952 وحتى 1970، وتناول حقبتين: عشية قيام الثورة، والحقبة السبعينية وعقد الثمانينيات. وحلل التاريـــخ كقــناع للإيديولوجـــيا حيث رأى أن مكاوي يغوص في أعماق التاريخ ليعود بهذه الفترة التاريخية وإسقاطها على الحاكم العسكري في فترة الاستغلال التركي وإسقاطها عل نفس الحاكم العسكري في فترة من التاريخ، إنه يوظف التاريخ بعيدا عن مهمته الوثائقية، ليخلق رؤى دلالية جديدة للتاريخ فتصبح الشخصية التاريخية قناعا كما الأسطورة ومن وراء هذا القناع تطرح الرؤى والأفكار عبر أنساق أيدلوجية تدين الظلام وتحدد أسباب الهزيمة، فالشخصية التاريخية تصبح أسطورة أحيانا، والأسطورة تصبح خرافة وتتحول الرواية إلى حالة شبه سريالية تمزج بين رومانسية وثورية وأحيانا واقعية سوداء، وفي كل حالاتها ترتبط بالمثقف المصري والشخصية المصرية وهمومها. وأوضح أن سعد مكاوي استبدل البطل المثقف بالبطل في التاريخ، ويتضح ذلك من خلال الدلالات النصية للأسماء والمواقع والعناوين إنه يحاكم الفترة التاريخية وتتم إدانة أحد طرفي الصراع إما الحاكم أو المحكوم. والصحفيون - كفئة اجتماعية - لهم دورهم في تشكيل الرأي العام وهم خليط من المثقفين والكتاب الذين يتحركون داخل تيار الوعي، ولقد كان سعد مكاوي واحدا من هؤلاء المثقفين الذين يملكون قلم الأديب. وقال "عمل سعد مكاوي في جريدة المصري اليوم التي تعرضت للاضطهاد مثل كل الصحف المستقلة يقود هذه الصحيفة (محمود أبو الفتح) وعلى خط المواجهة مع النقابة وكانت تحاول إعداد قوانين ومشروعات لتعديل قانون نقابة الصحفيين والحد من سلطتها، قام البوليس المصرى بإحراق 20 ألف نسخة من الوفد المصرى. في فبراير 1946 شنت الحكومة حملتها على الصحف اليسارية وتمت مصادرة، اليراع، والضمير، والجبهة، والبعث، والطليعة، والفجر الجديد، وأوقفت المصري اليوم التي كان يسهر فيها معظم أعضاء الثورة وقبض على محمد مندور. وأشار إلى إن مثقف سعد مكاوي يهاجر كما هاجر أكثر من مائة صحفي خارج أرض مصر إبان قيام الثورة والتنكيل بالمثقفين للكتابة في صحف غير مصرية ومن عاد منهم دخل السجن ومنهم من مات خارج مصر ودفن مغتربا مثل محمود أبو الفتح مؤسس المصري اليوم، وكان السؤال الذي فجر الأزمات بين الثورة والمثقفين هو المطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات، وهناك نوعية من المثقفين تؤيد التحول الاشتراكي مثل موسى صبرى الذي يرى أن تستمر لجنة تصفية الإقطاع, وسرعان ما ينتقل بنفس الحماس إلى تأييد سياسة الانفتاح الاقتصادي، ويوجه نصيحته إلى رئيس الوزراء بضرورة اللجوء إلى المشروعات ذات العائد السريع مثل مشروعات السياحة، وكذا أنيس منصور الذي يبدى إيمانه بقوانين التأميم ثم يتحدث عن الانفتاح بأنه خير وأموال سوف تهبط على مصر. هذا ما لم يكن في حساب الشيخة زليخة لكن المهم أن الشيخ عباس عمامته لن ترقص بعد الآن تحت مراكيب الظالمين، وهكذا طائفة المأجورين من الكتاب، أيضا هناك الصحفي المأجور الذى يمنع مسيرة الوعى أن تكتمل وهؤلاء الذين يبيعون المبدأ من أجل المكسب، كذلك ترصد الرواية فراغًا سياسيًّا هائلا في فترة تاريخية مملوكية من تاريخ مصر المملوكي، فقايتباى يستولي على كل من حوله من مماليك وسلاطين ويضع نفسه فوق الكل. - نطق الاشمئزاز فى وجه قايتباى وشوّح بمركوبة مستهينا بالشيء الصغير الظاهر في الكف, وانفجر ضحكه الهازئ: أنا يا خسيس أصنع أختامي بيدى. - هكذا كان المماليك يهزؤون بالواقع ولا هم لهم إلا السيطرة على العرش. - على صعيد البنية الخارجية تولى جمال عبدالناصر الرئاسة والوزارة معا ست مرات، وجميع مناصب الوزارات تولاها العسكريون، كما سيطروا على مجالس إدارات معظم الجرائد كما لو كانوا يقسمون التركة فيما بينهم. - فأيوب بك الكبير يسحب أيوب بك الصغير وسليمان بك الشاوي يتواصى مع عبدالرحمن بك عثمان على أن لا يطلب كل منهم منصبا لا يتعارض مع منصب الآخر. - هذه فعلا جريمة العثمانيين والمماليك أنهم لم يسلحوا الشعب. وعندما بلغ نابليون مشارف القاهرة كان يعرف أن شعبها أعزل إلا من الأعلام والنبابيت والحناجر، أما إبراهيم بك ومن معه فقد فروا إلى غزة، ومراد بك ومن معه فقد فروا إلى الفيوم. ولفت إلى أن وباء الطاعون لم يكن في "السائرون نياما" مرضًا عاديًّا بل كان مزمنًا له مقدماته على جميع المستويات وخصوصا المستوى الاقتصادي، لقد كان انكسار الجبهة الداخلية أمام قيادتها في صورة المثقفين والصحفيين انكسارا للجبهة الخارجية في هزيمة 1967 لقد صدرت رواية "السائرون نياما" في عام 1965 كأنها كانت تتنبأ بالهزيمة التي سوف تحل بالأمة. أما على الصعيد الاقتصادي فقد وقعت البنية الاقتصادية بين مساوئ نظام الالتزام وآثار الانفتاح السريع، فالأراضي مقسمة بين الأمراء والجند كإقطاعيات يتقاسمونها، مما أدى إلى تعاظم نفوذ المماليك مما خلق فئة اجتماعية تملك الإنتاج وفائض الإنتاج والربح والريع، ثم فئة الأجراء المستغلين في أعمال السخرة، حتى جاء قانون الإصلاح الزراعي 1952 ليجرد هذه الطبقة مما تملك، كذلك كانت الثورة الاجتماعية في الخروج على الملتزم وولده حمزة. لقد أقام سعد مكاوي ثورة ضد فساد النظام المستبد وضد شمولية الحكم على الظلم الاجتماعي قام فلاحو ميت جهينة بثورتهم ضد الملتزم. ورأى سيف الدين أن سمات الشخصية المصرية في رواية سعد مكاوى تتأرجح ما بين الثورة والسكون والمهادنة والمواجهة، إنها شخصية تعيش العزلة الاقتصادية والنفسية والثقافية وحالة من حالات النفي الاختياري والإجباري، ومعالجة كل ذلك باللجوء إلى القضاء والقدر واللا حيلة، إنها شخصية تعيش موقف الانتظار للبطل المخلص في صورة (المهدي المنتظر) ولم يقم بالثورة إلا من يملكون السلاح. كما كانت الشخصية المصرية في حالة من العري المطلق، فهي في حالة من الفراغ والخواء تنتظر المصلح كأنها لا تعرف الإصلاح ولا تعرف أين مصلحتها، لذا هي تنتظر من يصلح لها شأنها: - فذهبوا إلى محمد على ليخلعوا عليه لباس السلطنة، وها هي الأمة كلها تنكسر أمام الوالي التركي، وها هم المثقفون وقد سقطوا وغيبوا أمام قانون الأحزاب وسقطت الصحافة في قبضة السلطة حتى كان الطاعون ممثلا في انكسار 1967 . - أيديولوجيا الخلاص زكتها مجموعه من العوامل أهمها: شدة المأساة، وكبت الحريات، وانتظار المهدي المنتظر، ووقوع الكل في دائرة الانتظار، والتمسك بالبطل ولو كان مهزوما. وأكد سيف الدين على أن سعد مكاوي كان ينتمي إلى الواعين من المثقفين، وكان من الصعب أن تسيطر عليه القيادة السياسية، فهو مناضل حامل لسلاحه الإيديولوجي متحصنا ما استطاع بالصحافة والصحفيين، وللصحفيين توجهاتهم المتعددة إلا أن نضالهم واحد من أجل الحرية. وقال "في الرحلة الروائية نجد أن أغلب ولاة مصر يمثلون الحالة الديكتاتورية والاستبدادية والجماعة المثقفة في مواجهتهم. والمثقف الواعي نقطة محورية، والأزمة تشكل الواقع، والخلل في التركيب الاجتماعي، والطاعون نتيجة منطقية وهو حالة انكسار والقيام من الانكسار لا يكون إلا بالثورة. وقوة الوعي لدى سعد مكاوي تتبدى بتكوينه للجماعة الوطنية المترابطة المتماسكة التي تدعو إلى البحث في التراث الديني واستلهام نموذج جهادي، وهو داخل الجماعة الصوفية يصل إلى أشد حالات تكوينه الفكري. وخلص سيف الدين إلى أن هناك أسبابا أنضجت فكرة الخلاص منها شدة المأساة، والاستبداد وكبت الحريات، وكان الصحفيون يعيشون المأساة مع تشتت شملهم وكثرة المأجورين بينهم، فكانوا ينتظرون أن تنتهي المأساة ولو إلى أخرى، أما الانتظار للمهدي المنتظر ودخول الشخصية المصرية في اللا حيلة والشعور بالعجز حوّل جميع الشخصيات في مرحلة التحيين. أما التصوف فكان فكرة خلاص وطريقا يدعو إلى السمو الروحي والارتقاء فوق متطلبات الجسد والاحتماء بتأويل ديني يتناسب والموقف التاريخي، كما كانت طريقا للتخفي والتماس الحق عن طريق التطهير النفسي والإلهام الإلهي، والمثقف هنا ينطلق من ركيزتين هما: إيمانه بالله، ووقوفه في وجه المفسد والمستبد. والرؤية هنا جماعية يحملها المبدع عن جماعته التي ينتمى إليها وينقلها إلى غيرها من أبناء المجتمع وفهم الواقع انطلاقا من الظروف المعاشة بكل مكوناتها. وتتحدد أهداف الرؤية بمواجهة الآخر إمكانياتها في الثورة تتحقق بالتخلص من رواسب الماضي. ونسق الرؤية يرتبط بالحرية والعدالة الاجتماعية والجهاد ضد الغازي أو الفاسد. إنها رؤية دينية اجتماعية، ففي ظل غيبة العدالة لا بد من التشبث بنموذج بديل، الرؤية تنطلق من العقيدة، ذات طابع اجتماعي تقوم على فكرة العدل الاجتماعي والملكية العامة، وذات طابع سياسي تطرح تصورا محددا عن الدولة والحاكم، وذات طابع تنويري إذ تغلب دور العقل في كل الأمور بالانفتاح على الآخر الغربي بكل ما يحمل من مكونات فكريه وثقافية، وفي طيات هذه الرؤية تتبدى الشخصية المصرية باحثة عن البطل وأغلب أفرادها من المهمشين والتماس البطولة في شكلها الديني المبارك بالولاية وأعتاب البركات سواء الولي الميت أو الولي الحي. والبنية عند سعد مكاوي أشبه بالبنية القدرية الحتمية التي كتبها القدر على البشر، والمثقفون جميعهم في حالة هروب من القدر والمكتوب المأزوم، وفي حالة انزواء أمام الآخر السلطوي. محمد الحمامصي
مشاركة :