بين الثريا والثرى مسافة هائلة لا يملؤها سوى شهيد يدافع عن قضية عادلة. هذه المسافة استحقت أن يظلّلها شهيد القدس وابن غزة إبراهيم أبو ثريا، وإن بنصف الجسد الباقي منه، بعدما فقد النصف متمثّلاً بكامل الساقين في العدوان الإسرائيلي على غزة سنة 2008. ومثلما كان جيش الاحتلال الصهيوني منذ تشكّله قبل نكبة سنة 1948 عصابة تتقن القتل بدم بارد وفق نظرية عنصرية اختزلتها رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير بعبارة «العربي الجيد هو العربي الميّت»، ظلت هذه العصابة التي تسمي نفسها زوراً وبهتاناً «جيشاً»، بل «جيش دفاع»، وفيّة لعنصريتها وعصابيتها وإجراميّتها. هذه العصابة التي تسمي نفسها جيشاً يصفه قادته بـ«الأكثر أخلاقية في العالم» لا تميّز بين قعيد على مقعد متحرّك، وعقيد في مقعد دبابة. لذلك، لم يفاجأ أهل فلسطين حين رأوا جيش الاحتلال يطلق رصاصة على جبين إبراهيم أبو ثريا ابن التسعة وعشرين عاماً لتأخذ روحاً بحجم جبل كانت مزروعة في نصف جسد. يقول أصدقاؤه: نعم، الرصاصة أصابت جبينه لأنه كان مقبلاً وليس مدبراً، وكان يزحف في اتجاههم رافعاً علم فلسطين في القلب نبضاً أصيلاً وبين يديه راية خفّاقة. نصف جسد بنصف جسد، زحف إبراهيم إلى خطوط التماس شرق مدينة غزّة، حيث المواجهات تتواصل منذ القرار الأميركي الذي يعتبر القدس عاصمة لإسرائيل. لم يمنعه بتر قدميه نتيجة صاروخ إسرائيلي قبل تسع سنوات من أن يكون دائم المشاركة في التظاهرات، بل ويحض الآخرين على المشاركة. قبل يومين من استشهاده في جمعة الغضب الماضية قال في لقاء تلفزيوني قصير: «هذه الأرض أرضنا، ومش رح نستسلم». لم يكن يكترث لقدميه المبتورتين، بل كان يواصل الذهاب بشكل يومي للحدود الشرقية لحي الشجاعية شرق مدينة غزة نصرة لمدينة القدس. هذه المرة اقترب إبراهيم من السياج الفاصل كثيراً. كان جنود الاحتلال ينظرون إليه. المنطقة مكشوفة تماماً ولا سواتر، والجنود يدركون تماماً أن هذا الشخص مبتور القدمين، وأنه زرع علماً ولم يزرع قنبلة، غرز سارية العلم الخشبية في الأرض، ولم يغرز سكيناً في صدر جندي. لكن قناصة الجيش «الأخلاقي جداً» أطلقت النار مباشرة على الشهيد وأصابته في منتصف جبينه العالي. في جمعة الغضب، حين استشهد إبراهيم، كان أصدقاؤه يتحسّبون من ردة فعل صديقه الأقرب ياسر سكر، لكن ياسر «لم يدل بأي تصريح».. لم يقل شيئاً ولم يعلّق، لأنه استشهد في نفس التظاهرة. قاهر الإعاقة لم يتحمّل جيش الاحتلال قوة وعزيمة شاب مقعد تحدّى إعاقته وقهرها، وخرج ليدافع بحنجرته عن القدس وفلسطين في مواجهة من سلبوا وطنه وساقيه. ولم يضف شقيقه سمير وضوحاً على ما هو واضح حين قال: إن إبراهيم كان شجاعاً، لدرجة أنه وإن لم تكن هناك تظاهرات، كان يذهب وحده يومياً إلى «الحدود»، يصرخ ويهتف ويرفع شارة النصر.. يفرّغ غضبه ويعود ليغسل السيارات بهدف إعالة أمّه وأسرة من أحد عشر فرداً. لم يتحقق لأم إبراهيم أبو ثريا حلمها بأن تفرح به عريساً، لكنّها ومعها عشرات الآلاف من أبناء غزة، زفّته في جنازة مهيبة في حضرة ثلاثة شهداء قضوا معه في نفس اليوم. لم يكن ليمشي في زفّته هذا العدد من الناس عندما يقترن بشريكة حياة، لكن هذه الجموع سارت في جنازته لأنه كان عريساً تعانق روحه أولى القبلتين وآخر الأوطان.
مشاركة :