الجواب المباشر البسيط الذي يقدمه السياسيون والعسكريون عن السؤال اعلاه: أن داعش انتهت عسكريًا في العراق وفي سوريا، وما بقي منها هو مجرد فلول لن تقوم لها قائمة في المستقبل المنظور. والسؤال الذي يتولد عن سابقه هو: هل ان الحاق الهزيمة بداعش وانتهاءها عسكريًا يعني انتهاءها سياسيا وفكريا مع استمرار حاضنتها الاجتماعية؟ والجواب هو بالنفي طبعا، بالنظر إلى أن ظاهرة داعش هي نتيجة لعدة عوامل اجتمعت، فأظهرتها الى الوجود بتعبيراتها العنيفة المتوحشة. وهذه العوامل ما تزال قائمة وتتعمق يوما بعد يوم، بالرغم من الهزيمة العسكرية لهذه الجماعات التي لا نعرف الى حد الآن من اين جاءت والى اين ذهبت، بل قد تكون هذه العوامل قد تفاقمت أكثر من ذي قبل على صعيد البنية العميقة الحاضنة، كنتيجة طبيعة للأوضاع وللسياسات، وأن انكفاءها العسكري هو نتيجة طبيعية للتفوق العسكري والأمني الدولي، كخيار لمواجهة هذا التطرف غير المسبوق في تعبيراته الأيديولوجية والمادية والإعلامية. فإذا كانت المعالجة العسكرية التي شاركت فيها قوى ضارية محلية وعربية ودولية وآلاف الطائرات والصواريخ والدبابات والقنابل والجنود، قد حققت بعد أكثر من 3 سنوات (نصرًا) يحتفل به كل طرف بطريقته الخاصة: في ظل الخراب الشامل والمقيم والدراماتيكي للعراق وسوريا (حرثًا ونسلاً وبنية ومقدرات)، فإن الأسباب التي خلقت هذه الجماعة - فضلاً عن أصابع المخابرات الأجنبية وخرائطها - هو الوضع الناجم عن احتلال العراق في 2003م، وتدمير بنية الدولة واسس التعايش فيها، والسعي إلى تدمير بنية الدولة السورية ونظام التعايش الفريد فيها. وهو أيضا ناجم عن ثقافة الاجتثاث لمكونات كبيرة ورئيسية وانتهاك حقوق المواطنة، وناجم عن التدخل الخارجي المهين لشعوب المنطقة وسيادة دولها، مما قاد إلى الاحتراب الأهلي وانتشار الفساد والتوحش، هذا فضلا عن الأسباب الأخرى المرتبطة بالاستبداد وفشل نموذج التنمية. هذه العوامل مجتمعة ما تزال قائمة، بل قد تكون تعمقت أكثر، ولذلك فإن الحسم العسكري لوحده لا نعتقد بانه سوف ينهي هذه الحالة التي تركزت في العقول والقلوب والذاكرة وفي العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. صحيح ان تلك الجماعات التي ترفع شعارات «الجهاد»، وإقامة حكمه، وتطبيق شرعه، وفرض الجزية، وتحجيب النساء،«قد تختفي في الشارع: ويخفت صوتها في المساجد والمدارس والجامعات، وقد تخف مظاهر استعارتها للأزياء والشعارات، ولغة الخطاب المستجلبة من الماضي، لكننا نرتكب خطأ كبيرا، إذا اعتقدنا انها سوف تختفي فعلاً وبشكل نهائي من الوجود، ومن الفضاء الاجتماعي. وذلك لأن الأرض لم تنشق فجأة عن هذا العالم القديم لتخرج منها هذه الجماعات، لكن تطورًا تاريخيًا بعينه لمجموعة من الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هو الذي أنتج تلك الجماعات التي سريعا ما امتلكت قدرة هائلة على حشد قطاعات واسعة من الجماهير وتنظيمها داخل صفوفها، في ذات الوقت الذي ظهر فيه بوضوح عداؤها للديمقراطية، والطابع القمعي التكفيري في مشروعها السياسي الأسود، وأخيرًا الانفجار الدامي المتزايد بمعدلات هائلة للصراع المسلح بينها وبين بقاي الدولة في كل من العراق وسوريا وحتى ليبيا وغيرها. إن التحليل التاريخي لهذه الحركة هو الطريق الصحيح والوحيد لتحديد طبيعتها، وفهم ممارستها السياسية وخطابها الإيديولوجي، فعلينا أولاً أن نميز بين الإسلام كعقيدة، والإسلام كمشروع سياسي، فالإسلام جاء ليعبر عن مصالح اجتماعية وتطور تاريخي وتعدد وانقسم تبعًا لتطور وتعدد وانقسام الجماعات البشرية التي تبنته وامنت به. ولذلك لا يمكن أن نتحدث عن مشروع سياسي إسلامي واحد، لأننا لو فعلنا ذلك، لأغفلنا المصالح الاجتماعية المتناقضة، والتي تؤدي إلى تعدد وانقسام الحركات السياسية المعبرة عن هذا المشروع. فالعالم يشهد منذ سقوط العراق وحتى اندلاع موجهة الربيع العربي، وما تبعها من تفكك عدد من الدول العربية المهمة وانتشار الفوضى، التي أرادها الامريكان وخططوا اليها بشكل علني، انتقالاً دراماتيكيًا، من العنف المعزول إلى «التوحش المركب». فإذا كانت «القاعدة» قد ركزت جل جهدها ضد من تسميهم «الكفار»، فإن الفصيل الجديد من الإرهاب، يكفر الجميع تقريبًا ويضرب في كل اتجاه، والتحول إلى الغزوات الفعلية، وصولا إلى إعلان الدولة الإسلامية بالقوة في جزء من العراق وسوريا وليبيا، كنواة لإمارات إسلامية تجري فيها بروفات تمهيدية للخلافة الكبرى. ومع ذلك، وبالرغم من اندحار هذه الجماعات تحت وطأة الضربات العسكرية الماحقة، فإن نظاما مثل النظام الإيراني-القائم هو الآخر على أساس ديني - طائفي عنيف ومتوحش - لا يقل خطورة عن داعش، (بل لعله داعش التي نجحت)، مع انه يأخذ شكل الدولة المنظمة، بمقدرات كبيرة. وهذا لوحده يحتاج الى قراءة متأنية لظاهرة الجماعات الدينية، سواء اتخذت شكل الدولة أو شكل الجماعات الحزبية او الجماعة الإرهابية. إن محددين رئيسيين يحكمان فهمنا لطبيعة أي حركة سياسية: - الأول: الأساس الاجتماعي للحركة. - الثاني: الظرف التاريخي للصراع الاجتماعي الفاعل في ظهورها. وهذا يعني أنه لا يمكن الحديث عن حركة إسلامية واحدة على مستوى العالم. ولذلك فمن الخطأ أن ندمج، ضمن حركة سياسية واحدة، الحركات الإسلامية في فلسطين، مع الحركات الإسلامية الأخرى التي تقبض على السلطة، وتلعب دورًا مباشرًا في قمع وتصفية الأقليات القومية، مع الحركة الإسلامية السوداء في الولايات المتحدة الامريكية، والتي تخوض نضالات ضد الاضطهاد القومي العنصري. أو مع حركة الإخوان المسلمين كحركة تأتي الغالبية العظمى من كوادرها من قطاعات برجوازية صغيرة حديثة، تلعب أدوارًا داخل النظام السياسي القائم، بمساومة الدولة من جهة، وخداع الجماهير من جهة أخرى. ولذلك لا يمكن أن ندمجها في حركة سياسية واحدة مع الحركة الإسلامية الجهادية المتطرفة والمسلحة، والتي تأتي الغالبية العظمى من كوادرها من القطاعات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة، وتطرح مشروعا سياسيا رجعيا محافظا، وقائمة على التكفير والعنف.. ومن هنا فإنه لا يمكن القضاء على هذه الجماعات او الحد من تأثيرها إلا من خلال مشروع وطني وقومي متكامل. يؤسس لدولة المواطنة المتساوية، في ظل بناء اجتماعي متوازن وعادل، يجمع عليه الناس في إطار مشروع وطني مدني ديمقراطي وثقافي ينهض على الحرية والتعدد والتنوع والتسامح. ويتجنب استخدام المقدس في البحث عن شرعيات، أو في الصراع السياسي على السلطة. إن تحليلاً موضوعًا لهذه الظاهرة وحده قادر على رسم الطريق للخروج من هذا المأزق الذي يستمر منذ عقود عديدة وينهك الدولة العربية ويعيدها في كل مرة الى الوراء. الى درجة الصفر. وإن تجنب هذا التحليل او الاستخفاف به من شأنه او يؤدي الى ادمان حالة الفوضى وعدم اتخاذ القرارات الاستراتيجية التي تخرجنا من المأزق السياسي والحضاري.
مشاركة :