«دونر كباب» أوروبا فصلٌ في علاقة الإنسان بالأكل

  • 12/21/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

نجا «دونر كباب» من براثن الاتحاد الأوروبي. وبفارق ضئيل، أفلت المعادِل التركي للـ «شاورما» الشهيرة، من عقوبة الحظر الذي طالب به نواب تبنوا وجهة نظر سلبية تجاه الفوسفات في ذلك الطبق. وليس «دونر» سوى فصل جديد من صراعات معاصرة حول المأكولات وخيالاتها. وعلى رغم الأسواق الضخمة المتّصلة بالأكل، وهو نشاط بشري محوري في بقائه واستمراره، تعتبر الهويّة من الأبعاد الأساسيّة لمجموعة من الصراعات التي صعدت بقوة في أواخر القرن العشرين، ثم استمرت بالتصاعد. وطريّ في الذاكرة أنّ العولمة الليبراليّة كانت في عزّ اندفاعاتها في تسعينات القرن 20، تُروّج للمأكولات الأميركيّة المعروفة بـ «فاست فود»، بالأحرى «جانك فود» وهي تعني بالعربيّة «طعام متدني المستوى» أو «طعام نفاية»! وتذكيراً، ارتبط انتشار تلك الأطعمة (خصوصاً الـ «هامبرغر») بالنفوذ الأميركي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك الحال بعد انتصار أميركا في «الحرب الباردة» التي امتدت حتى تسعينات القرن العشرين. وإبّان الغزو الأميركي للعراق، سرت في بلاد «العم سام» نغمات تدعو إلى مقاطعة البطاطا المقليّة على الطريقة الفرنسيّة («فرينش فرايتس») احتجاجاً على موقف باريس المعارض آنذاك لتلك الحرب. وفي زمن قريب، انفجرت حرب الفلافل الشهيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فيما يسري صراع مكتوم بين ضفّتي المتوسط على «المنقوشة» بين لبنان و...إيطاليا. وفي سياق العولمة وأزمنتها، يمكن إضافة أبعاد أخرى لتلك الحروب، تنقلها من بعدها المتّصل بالهويّة العامة، إلى الذائقة الثقافية المميّزة للفرد في القرن 21. ويرتبط ذلك بأمور كالوشم (إعلان متنوّع مكتوب على حدود الجسد)، والأنوريكسيا (الانضواء أو الاحتجاج على قولبة نمطية للأجساد)، والبدانة التي ارتبط صعود اهتمام الطب بها مع ميل الدولة المعاصرة إلى إلقاء عبء رعاية الفرد على نفسه، وتحميله مسؤولية أمراض كالضغط والسكري، عبر ربطها بقدرة الفرد على السيطرة عليها ذاتيّاً. ولا تهدف الكلمات السابقة للقول أن الصراع على أطباق الطعام وهويّتها ومسؤولياتها، هي حكر على أزمنة الحاضر. وفي كتابه الشهير «تاريخ الملح في العالم»، وثّق الأميركي مارك كورلانسكي أنّ شعوب البحر المتوسّط تكاد تستميت في نسبة شجرة الزيتون بزيتها وثمرها الذي يؤكل مملحاً، إلى هويّاتها وتراثها!   الطعام العضوي وشعبويّة ترامب! مع بداية الألفية الثالثة، صعد غبار معركة ما زالت مستمرة: الطعام العضوي Organic Food. وبرز ضمن ذائقة معاصرة ساهمت الإنترنت في ترويجها، ترى فيه نقيض ما فعلته الصناعة بالطبيعة. العضوي هو نقيض ما ينمو باستعمال وسائل صناعيّة كالمبيدات الحشرية (النبات)، والعلف الممزوج بالدهون والزيوت الصناعية الثقيلة (كحال بعض دجاج أوروبا)، والعلف الممزوج بالعظام المطحونة (الذي ارتبط بانتشار «جنون البقر»). وحاز الطعام العضوي صورة ما ازدرته عقلانيّة الحداثة وصناعاتها طويلاً، لكنه عاد ضمن تلاوين ما بعد الحداثة، على غرار عودة الطب البديل والعلاج بالأعشاب. وملأ نقيض العقلاني أيضاً خيال مُناهضي العولمة ممن اعتبروه نقيضاً لأطعمة الـ «فاست فود» التي تُديرها الشركات العملاقة، خصوصاً الأميركية، على حساب صحة الناس، إضافة إلى مصالح الشعوب النامية. وفي أميركا المعاصرة، يروج العضوي في شرائح واسعة ممن يوصفون بالشعوبيّة التي أنجحت الرئيس دونالد ترامب المعادي للعولمة أيضاً! وبمعنى ما، حاز الطعام العضوي أيضاً صورة المُعبّر عن الـــهويّات الوطنيّة والمحليّة التي تُقاوم انسحاقها تحت ضغط الهويّة الشـــاملة للـــعولمة المؤمركة. وشرعت تلك الصورة بالتغيّر تدريجاً. إذ تنبهّت الشركات إلى الميل المتصاعد صوب الطعام العضوي، فتبنّته وألقت قبضتها الثقيلة عليه. وكذلك أبرمت سلسلة السوبرماركت الشهيرة «وول مارت» اتفاقات مع شركات غذاء كبرى تُقدّم أطعمة عضويّة مستقدمة من دول عدّة. اعتبر كثيرون، كالأميركي غاري بول نبهن (مؤلف كتاب «العودة إلى المنزل وطعامه: ملذّات الأكل المحلي وسياساته»)، الأمر اختراقاً من الـشركات الكُبرى لمساحة من «الثقافة البديلة» التي تُناهض سطوة تلك المؤسّسات. وثار أيضاً سؤال عن سيطرة الشركات العملاقة على الأطعمة العضويّة، كأنها تُجدّد صورة القوى الاستعمارية القديمة، بل تتصرف كمن يملك تفويضاً مُسبقاً (لم يتردد البعض في وصفه بـ «الإلهي») بالتصرف في ثروات الكون ومقدراته. وهكذا، دخل الطعام في القرن 21 حلبة الصراع المتشابك للسيطرة على الأرض ومواردها، ليجدّد نقاشاً أساسياً في صراعات الهويّات، بل انسرب إلى مسارات في «الثقافة البديلة» أيضاً.   تاريخ وجيز لطعام المنتصر تعجّ النصوص الأسطوريّة والملحميّة بالصور التي يتخللها شواء اللحم قرباناً أو احتفالاً بانتصار المُحاربين، أو حتى لإغوائهم واستثارة فحولتهم، كما في قصة «أستير» في التوراة، وفي ملحمتي هوميروس (الإلياذة والأوديسيّة) عن حرب طروادة. وتبدو راسخة تلك الصورة النمطيّة للذكر المنتصر متناولاً اللحم باعتباره طعاماً عالي القيمة، بل الطبق الذي حاز خيالاً يربطه أيضاً بالفحولة الجنسيّة والقدرة على إيقاظ الشهوات. وكان اللحم تاريخيّاً في طليعة الأطعمة التي تعطى لتحفيز الرغبة الجنسية. وما زال كثير من قبائل العرب تجعل الرجل- الأب على رأس المائدة، كي يأكل أولاً، ابتداء باللحم. ولم يفت سيغموند فرويد، مؤسّس مدرسة التحليل النفسي، التنظير للعلاقة بين الفم والجنس، ومدّها إلى الطعام. وتقليداً، اعتقدت النظريّة الداروينيّة في التطوّر بأنّ المزايا البيولوجية للذكر، كقوة العضلات وطول القامة وثقل الوزن، أناطت به دور الصياد- المقاتل الذي يحمل السلاح ليوفر للقبائل طعامها، ويقاتل أعداءها. عند عودته، يُكافأ الرجل بالشواء والجنس، فيما النساء هن للاعتناء بالسكن وإنجاب الأطفال وليكنّ محلاً لمتعة الذكور. عرفت تلك النظرية باسم «الغذاء مقابل الجنس». وتظهر تلك النظرة في فيلم «أبوكاليبتو» Apocalypto (إخراج ميل غيبسون- 2006). مَنْ صنع مَن: اللحم أم الذكوريّة؟ في الأزمنة الحديثة، تعرضت نظرية «الغذاء مقابل الجنس» إلى نقد نسوي قوي. إذ أبرزت الباحثة الفرنسية كريستين دلفي أهمية بحوث إنثروبولوجية لأدريان زيهلمان ونانسي تيرنز، بيّنت أنّ أقواماً بدائية كثيرة اعتمدت على الحبوب، التي شكّلت 70 في المئة من غذائها. وتولّت النساء شأن تلك الحبوب، ما يعني أن الرجال طالما اقتاتوا من أيدي النساء، وليس العكس. البدانة وانفصال طعام الشرق عن الغرب درست الأميركيّة المعاصرة سارة مانسون أطعمة ترجع إلى الزمن الطبشوري في أوروبا الوسطى، فعثرت على أدلة ضد مقولة «الغذاء مقابل الجنس» وذكوريتها المُفرطة. ومع الاستقرار المديد للمجتمعات الزراعيّة، صارت مع الطبيعة قابلة للإنتاج الموسّع. كما بات اللحم متوافراً على نحو ثابت، وانتقل جزء منه إلى أيدي النساء، خصوصاً عبر الدواجن. وأدّت الثورة الصناعية، وإعلاء قيم الاستهلاك، وارتفاع نسب تكاثر البشر إلى تزايد الحاجة إلى لحوم الدواجن والأبقار. وعملت الصناعة والعلم على مكاثرتها بأساليب تُشبه التصنيع. في المقابل، أخلّ التدجين الصناعي المُكثف بحياة المواشي، بل شكّلت مزارعه منصّات لانطلاق أوبئة على علاقة بالطعام، كالحمى القلاعيّة، وجنون البقر وإنفلونزا الطيور وغيرها. ويمكن ملاحظة أنّه في أواسط القرن السادس عشر، بدت المآكل مُتشابهة بين الغرب والشرق الإسلامي للإمبراطورية العثمانيّة، التي يرث «دونر كباب» بعض أطيافها في أوروبا حاضراً، خصوصاً مع أزمة المهاجرين. وحصل تغيير في أوروبا بالتزامن مع ظهور النظريّات العلميّة الكبرى التي بدّلت نظرة الإنسان إلى الكون. وفي القرن 16، صنع الطعام بحسب طب اليونان الذي نظر إلى الهضم كاستمرار للطهو الذي يبدأ من حرارة الشمس المتغلغلة في مكوّناته كلّها، ثم تكمله حرارة النار في المطبخ، قبل أن تتولاه حرارة الجسم في الجهاز الهضمي. وزاد في التشابه أن العرب تبنّوا أسس الطب اليوناني، خصوصاً نظريّة الخلطات التي تظهر في كتابات ابن سينا والفارابي. وساد غرباً وشرقاً طعام قوامه العصائد التي تخلط الفواكه (التمر شرقاً والتفاح غرباً)، مع اللحم والحليب والسكر والمكسرات والبهارات.   صراع على اللسان البيولوجي كانت خلطات السُكّر والملح والحامض والمرّ المذاقات الرئيسة للسان البيولوجي. وآنذاك، ارتكز الطعام على فلسفة أرسطو عن الخلطات الأربع الأساسية في الطبيعة (الماء والنار والهواء والتراب)، فيكون الطعام المثالي أميل إلى الرطوبة والسخونة. والسبب؟ خلطات الطبيعة الأربع لها ما يوازيها في الجسم الذي يتكوّن، وفق أرسطو، من خلطات أربع: الدم والبلغم والصفراء والسوداء. واستطراداً، يكون الجسد في ذروة قوته أيام الشباب، رطباً ودافئاً. وبعد قرن، تفارق الشرق والغرب. غرباً، اختفت العصائد، ليظهر طعام يشبه ما يشيع راهناً. وسادت نظرة علميّة ترى أنّ هضم الطعام يشبه عملية التخمير، التي تُمدّ الجسم بما يلزمه قبل أن تُلفظ الباقي إلى الخارج. ولذا، صار الأكل مُعتمداً على الدهن والملح والخضار، إضافة إلى اللحم والخضر الطازجة، لأنها تُسرّع من عملية التخمير وتنقيها من الشوائب. وفي نقلة تاريخيّة، انفصل طعم السكر عن الأكل، وباتت الحلوى تُقدّم كأطباق منفصلة بعد الطعام، لتُسرّع في عملية التخمير. وفي أوروبا، نشرت ثورات متتاليّة مبدأ المُساواة، فنقلت مآكل النبلاء وطعامهم المثقل بالدهون واللحوم إلى صفوف العامة. وربما فسّر ذلك جزئياً، ميل الطعام الغربي عموماً وحتى الآن، إلى إعطاء الدهن قسماً كبيراً من مُكوّناته. ما يعني أن انتشار البدانة له علاقة بأطعمة القرن السابع عشر!

مشاركة :