الأرجح أن مخيّلات القرّاء تمتلك صوراً متنوّعة عن «الثقب الأسود» (Black Hole). وطريّ في الذاكرة أنّه عام 2014، خرج من استوديوهات هوليوود، وهي الصانع الضخم للأخيلة عالميّاً، فيلمان على الأقل تمحورا حوله. عام 2014، ظهر فيلم «بين النجوم» (إنترستيلر/ Interstellar) من بطولة ماثيو ماكونهي وآن هاثوي. واستندت قصته إلى خيال علمي عن احتمال أن يتمكّن كائن بشري من عبور الثقب الأسود، مع شرح غير مباشر عن علاقة الضوء بالزمن فيه. وكذلك أُنتِجَ شريط السينما «نظرية كل شيء» (Theory of Everything) من بطولة إيدي ريدماين وفيليستي جونز، مستوحياً سيرة حياة العالِم البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ الذي وضع أعمالاً كبرى عن تلك الثقوب الفضائية الغامضة. ومن يتابع قناة «ديسكوفري تشانِل» التلفزيونيّة الفضائيّة، يلاحظ مدى الحضور المتكرّر لتلك الثقوب العملاقة والغامضة والخطرة أيضاً. باختصار، يشكل «الثقب الأسود» نقطة ثقيلة وكثيفة إلى حدّ أسطوري، بل يفوق وزنها الشمس بملايين الأضعاف، على رغم أن «مساحته» ضئيلة تماماً! ويتميّز أيضاً بامتلاكه جاذبيّة هائلة، بل تبدو جاذبيّة الشمس تافهة بالمقارنة معه، ويستطيع ابتلاع شموس بأكملها. ولشدّة جاذبيته، لا يستطيع شيء الإفلات منها، حتى الضوء لا يخرج من ذلك «الثقب» لأن جاذبيّته الضخمة تمسك به. إذا فكّرت أن الزمن مرتبط بالضوء وفق نظرية آلبرت آينشتاين، ربما يكون ذلك «إمساك» بالزمن أيضاً! وهناك ما لا يحصى من السيناريوات العلميّة عن تلك الأمور التي ما برحت غير مفهومة كليّاً. جاذبيّة بقوة خرافيّة في المقلب الآخر من المشهد ذاته، تروّج قناعة علميّة واسعة بأنّ ثقباً أسوداً عملاقاً يقبع في مركز كل مجرة، يحقّق توازنها ويحفظ بنيتها بجاذبيته الهائلة. ويمثّل الثقب الأسود ما تبقّى من نجمٍ فائق الضخامة يساوي وزنه قرابة عشرين شمساً سويّة، انفجر في زمن غابر (وحينها، يلقّبه العلماء بـ «سوبر نوفا»/ Super Nova، وترجمتها «المستعر الأعظم»). ثم تطايرت الطبقات الخارجيّة لـ «السوبر نوفا» على هيئة سحب غباريّة من مواد ذريّة، فلم يبق منه سوى قلبه الكثيف والفائق الثقل، مع ما يرافق ذلك من جاذبية كبيرة. وبعدها يشرع في «التهام» كل ما يمر قربه، ما يزيده وزناً وكثافة. وبذا، يشبه «الثقب الأسود» جثة نجم كوني عملاق. ولأن كل ما يدنو من ذلك الجسم الغرائبي «يُشفَطَ» إلى داخله في رحلة بلا عودة، بدا في أعين العلماء كأنه ثقب في السماء. وعلى امتداد بلايين السنين، يراكم الثقب الأسود المواد التي يلتهمها في مركزه غير المرئي الذي يزيد كثافة وثقلاً، ويصبح نقطة فائقة الصغر، كأنها معدومة الأبعاد، فيسميّها العلماء «نقطة تفرّد» (Singularity Point)، خصوصاً أنّ لا أحداً يعرف مصير الكميّات الهائلة من الأشياء والمواد التي ابتُلعت فيه. ولأن الضوء لا يفلت من جاذبيته القاسية، لا تراه العيون ولا تلحظه التلسكوبات مباشرة. وفي الفيزياء ليس الأسود لوناً بل إنه غياب الضوء. وتشكّل جاذبية الثقب الأسود المذهلة ذراعاً فائقة القوّة، وهي تزيد كلما ازدادت كتلته، وتصنع حوله ما يشبه الهالة، وهي المنطقة التي لا يظهر شيء بعدها. وأما ما قبلها، فتلك هي المنطقة التي يركز العلماء عليها للحصول على معلومات عنه. وعلى سبيل التشبيه، تسمّى تلك المنطقة بـ «أفق الحدث». هل استيقظ؟ هل عاوده النهم؟ استطراداً، كيف يمكن رصد الثقب الأسود إذا كان غير قابل للرؤية، أي أنه لا يرسل ضوءاً نحو من يراقبه كحال النجوم والشموس، بل حتى الكواكب؟ بداية، يجدر تذكّر أن الأجسام التي تقترب من «الثقب الأسود» تتفتت تحت تأثير قوة جاذبيّته الهائلة، فتضحي سُحُباً من غبار. وكذلك فإنّها تنجذب إليه لتدور حول حقل جاذبيته بسرعة هائلة، ما يتسبب بارتفاع حرارتها إلى ملايين الدرجات المئويّة. ولذا، تنطلق منها موجات من «أشعة إكس» بأثر من السخونة الكبيرة، فتبدو تلك الموجات كأنها صرخة تسبق سقوطها في شدق «الثقب الأسود». وبعدها، تعبر منطقة «أفق الحدث»، فيبتلعها «الثقب» ويرميها باتجاه مركزه. وبات معروفاً أنه يوجد في مركز مجرتنا «درب التبانة» ثقب أسود هائل، يسمّى «ساجيتاريوس-أ» (Sagittarius A)، واختصاراً «ساج-أ». ويزن ما يزيد على 4 ملايين ضعف كتلة الشمس. وقبل سنوات قليلة، كان سائداً الاعتقاد بأنّه جسم مستقر مسالِم، ولربما يشبه وحشاً التهم من الفرائس ما يكفي لإشباع نهمه، بمعنى أنّه أُتخِم مما ابتلعه من النجوم والأجرام والغبار الكوني، ولم تعد ذراع جاذبيته تطاول سوى بعض الغبار والمواد المحيطة به مباشرة. ويدل على تلك الحال من الشبع، أنّ موجات «أشعة إكس» المنبعثة من سُحُب الغبار الساخنة التي تدور حوله، صارت ثابتة. لكن، حدث شيء يشي بأن ذلك الوحش ليس نائماً، بل لعله لم يشبع بعد! وفي عام 2015، رصدت دراسة أجرتها وكالة «ناسا»، اعتماداً على ثلاثة تلسكوبات مدارية فضائية تعمل بأشعة إكس، زيادة معدلاتها التي ترتبط بسخونة الغبار المحوّم قرب «ساج-أ». وثار سؤال علمي عن سبب تلك الزيادة. أهي متأتية من سلوك طبيعي في وحش الفضاء الكوني، أم أنها متأتيّة من دخول جسم غباري غامض إلى منطقة «أفق الحدث»؟ منذ 15 سنة تتآزر 3 مراصد فلكيّة في مراقبة «ســاج - أ»، هي «مرصد شاندرا لأشعة إكس» (يتــبع وكالة «ناســا») الأمـــيركيّة، و «مرصــد نيوتن» التابع لـ «وكالة الفضاء الأوروبية»، إضافة إلى مرصد تؤلّفه مجموعة الأقمار الاصطناعيّة «سويفت». وكشفت دراسات حديثة صدرت عن تلك المراصد أن ثقب «ساج-أ» كان ينتج دفقاً من «أشعة إكس» مرتبطة بالسخونة في «أفق الحدث» مرّة كل عشرة أيام. وفي عام 2014، حدثت زيادة بمقدار عشرة أضعاف في معدل تلك التدفّقات الملتهبة، فصارت تصدر بمعدل مرّة يوميّاً. وربما كانت الزيادة ناجمة عن اقتراب جسم غامض سُمّي «جي2» (G2) من منطقة «أفق الحدث» المحيطة بثقب «ساج-أ» الأسود. الحاضر حدث قبل 26 ألف سنة أثار الاستيقاظ المقلق للثقب «ساج- أ» اهتمام المجتمع العلمي. وعلّق عليه عالِم الفيزياء غابرييل بونتي، وهو مختص بالفيزياء خارج كوكب الأرض في «معهد ماكس بلانك» للفيزياء» في ألمانيا. قال: «منذ سنوات، كنا نتتبع انبعاثات أشعة إكس منه، وكذلك مرور جسم غباري غامض (= «جي 2») بقربة. وقبل سنة، كنا نعتقد أن ليس لذلك الجسم تأثير على الثقب، لكن بياناتنا الجديدة تثير احتمالاً مغايراً». ولمدّة طويلة، اعتقد علماء الفلك أنّ «جي 2» سحابة واسعة من الغاز والغبار. وبعد اقترابه من «ساج- أ» في 2013، لم يتغير مظهره كثيراً، سوى تمدّده قليلاً تحت تأثير جاذبية ذلك الثقب. وحاضراً، نعتقد أنّ «جي 2» ربما كان نجماً «مختفيّاً» في شرنقة من سُحُب الغبار. وفي المقابل، أوضح العالِم مارك موريس من جامعة كاليفورنيا، أنّ لا اتفاق واسعاً بين العلماء على ماهية «جي 2». ومع ذلك، فإن حقيقة أنّ «ساج- أ» أصبح أكثر نشاطاً بعد فترة قصيرة من اقتراب «جي 2» قربه، تفترض القول بأن الثقب شرع في التهام قطعاً من سُحُب «جي 2»! وحفّزت تلك الظاهرة عينها العلماء على مراقبة أشباه لـ «ساج- أ» تتصرّف بطريقة مماثلة. واستطراداً، ثمة إمكان أن تكون زيادة الأشعة الساخنة المتدفقة من «ساج- أ» جزء من صفة مشتركة بين الثقوب السود وتطوّرها، ولا علاقة لها بمرور «جي 2» بجواره. وفي مقال نشرته مجلة «معهد ماكس بلانك»، تبنّى عالِم الفلك باربرا دي ماركو، تلك الوجهة، مشيراً إلى عدم تيقّن العلماء من الأمر. وشمل تحليل تلك الظاهرة 150 ملاحظة من تلسكوبات «شاندرا» و «نيوتن» في وسط درب التبانة على مدار 15 سنة، وهي وثّقت التزامن بين نشاط مستجد في «ساج- أ» ومرور غيوم «جي 2» منه. وثمة ماضٍ يتوجّب تذكّره أيضاً، لأنّه هو «الحاضر» أيضاً. ويقصد بذلك أن ما يرصده العلماء حاضراً في سلوك «ساج- أ» هو ما حدث قبل 26 ألف سنة، لأنه يبعد بذلك المقدار من الأرض، فيستغرق الضوء كل تلك السنوات كي يصل إلى الأرض ناقلاً إليها ما حدث... في ذلك الماضي السحيق! * رئيس الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث.
مشاركة :