يرى الباحث نجيب بلدي أن في تطور الفكر الأخلاقي عند الفلاسفة والمفكرين بوجه عام، امتحانا يماثل الحياة الشخصية، يماثله ويلتقي به في عدة نقاط، هذا لأن الفكر الأخلاقي في تاريخ الإنسانية نشأ مع مشكلات الحياة الإجتماعية والعملية، ولم ينشأ تحت ضغط مطالب الفكر النظري، ثم لأن تطور الفكر الأخلاقي إنما تم بفضل ما اعترضه من صعوبات غيرت اتجاهه في بعض الأحيان، ومنعته في أخرى من السير والتقدم ولو وقتا ما، ثم مهد النظر فيها واعتبارها إلى مواصلة السير. في ضوء هذه الرؤية يتناول الباحث في كتابه "مراحل الفكر الأخلاقي" الصادر عن دار آفاق، قضايا الفكر الأخلاقي انطلاقا من الفضيلة ومرورا بالواجب والمحبة والعمل، وذلك من خلال تحليل رؤى وأفكار الفلاسفة قديما وحديثا، ليؤكد أن تاريخ الفكر الأخلاقي يتفق مع تاريخ الفكر الشخصي في أن كلا منهما يتجه بسؤال الإنسان في موضوعات الأخلاق إلى الإجابة عن هذا السؤال، وفي أن كلا منهما، عندما يلتقي بمشكلة أخلاقية يتجه إلى حل هذه المشكلة: لا بد من الإجابة عن السؤال ولا بد من حل المشكلة. ولا قيام لموقف أخلاقي إلا بتلك الإجابة وبذلك الحل. بل لا قيام لموقف أخلاقي إلا إذا اتجه الإنسان بسرعة إلى الإجابة عن السؤال، واتجه بسرعة إلى حل المشكلة. هذا ما تبينه فيلسوف مثل ديكارت عندما قارن مطالب العمل بمطالب النظر، مسائل العمل بمسائل النظر، وعندما لاحظ أنه إذا كانت الأخيرة تحتمل التريث والشك، وتقتضيهما أيضا، فالأولى لا تحتمل شيئا من ذلك. ويضيف "غير أن الفكر الأخلاقي يمتاز على الفكر الشخصي، على تفكير الإنسان المعتاد في مسائل الأخلاق، بأن لا يقنع بإجابة واحدة، عن السؤال، وبأنه يتجه إلى اتخاذ الإجابة بعد الإجابة، يمتاز الفكر الأخلاقي بتراكم الإجابات وتعددها. ثم هو يمتاز على الفكر الشخصي بأنه في الظاهر على الأقل أبعد وأكثر عمقا منه، لأنه يحول دائما السؤال إلى مشكلة. ويتجه من وضع المشكلة إلى حل ثم إلى عدة حلول. لا يبدأ فيلسوف أخلاقي بمراعاة المشكلة الأخلاقية إلا حاول حلها وحاول ذلك بسرعة نسبية. ثم أن تاريخ الفكر الأخلاقي علاوة على الاتجاه إلى الحل والحلول وعلى اتخاذ الحل والحلول يبين لنا اتجاها إلى التنظيم: إلى تفصيل السؤال أو المشكلة أولا، ثم إلى تفصيل الإجابة أو الحل، وتنظيم تفاصيل ذلك الحل فيما بينها حتى تصبح منسجمة كل الانسجام بل لا نقص فيه بقدر الامكان. ويوضح الباحث أن تاريخ الفكر الأخلاقي يبين لنا كيف أن تراكم الإجابات والحلول في الزمن يقتضي ترابطا بين تلك الاجابات والحلول، ما دام كل فيلسوف لا يضع مشكلة ولا يحل مشكلة إلا لأنه وجد نقصا أو عيبا أو إشكالا ما، عند فيلسوف سابق عليه، وقريب منه في ذلك السبق الزمني. يتضمن تاريخ الفكر ترابطا تلقائيا بين الإجابات والحلول، ويتضمن أيضا انتظاما مفتعلا لتلك الإجابات وتلك الحلول، إلى حد أنه يمكن اعتبار كل إجابة أوكل حل جزءا من بناء كامل متسق، جزءا من علم هو علم الأخلاق، أو علم النظريات الأخلاقية، تنسجم فيه تلك النظريات وتتناسق فيما بينها. ويشير الباحث إلى أن الفكر الأخلاقي يبدو في مرحلته الحاضرة يتجه بعد جميع المناقشات وجميع المتناقضات إلى نوع من الإجابة واحد، إلى إجابة وإن لم تكن مرضية في الظاهر وبالمعنى النظري لمطالب مختلف المفكرين ومسائلهم، فهي إجابة يتفق عليها الناس في الوقت الحاضر مفكر مهما تكن نشأته ومهما تكن أغراضه، من يفضل النضال والعداء على المصادقة والمسالمة، الاستهتار على كبح الجماح وإضعاف الشهوات العنيفة، بطولة التهور على بطولة التضحية، فضيلة الطبيعة على فضيلة الواجب، احترام الواجب على المحبة. ويلفت إلى أنه عند امتحان فكرة أساسية كفكرة العدالة، تبين أن أسمى أنواع العدالة الثورة على الظلم، وإيقاظ مستمر للشعور إلى ضرورة تلك الثورة في النفوس، وإثارة الروح الثورية بصدد مختلف المسائل عند جميع الناس: فمن الرق إلى الاستبداد السياسي، إلى حرية الرأي والتعبير عنه، إلى مسألة المرأة، إلى حق الدول في إعلان الحروب وتعبئة الجيوش بدون استشارة الأفراد، وبدون الأخذ برأي الأقلية. هذا تقدم في الأخلاق ولكنه لا يظهر إيجابيا في شيء، ولا يظهر فيه اتجاه إلى حل نهائي، هذا تقدم بالرغم من أنه يفترض قيام تلك المشكلة ذاتها التي يريد القضاء عليها الفكر الأخلاقي: مشكلة الظلم يفترض وجودها وتشعبها وإمكان انتشارها وتعقدها أيضا. هذا تقدم في الأخلاق هو تقدم في الوعي للأشكال ولصعوبة الحل إن لم يكن تعذره. محمد الحمامصي
مشاركة :