إلى أي حد قد يسعفنا الخيال السياسي في إبداع حياة الكرامة وتجاوز واقع مثخن بالهشاشة والخسارات؟ وهل تمتلك نخبنا العربية القائدة خيالا سياسيا لتدبير شؤون أمتنا من المحيط إلى الخليج؟ تلك هي أهم الأسئلة الشائكة التي طرحها كتاب "الخيال السياسي" لمؤلفه عمار علي حسن الصادرعن سلسلة عالم المعرفة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017 . يعرض بحث هذا الكتاب القيم لدور الخيال السياسي في النهوض بالدول والمجتمعات على مستوى تجويد حياة الأفراد والرقي بها إلى مدارج التطور والحداثة والديموقراطية. ويعزو الكاتب انفجار الربيع العربي إلى القصور الكبير في المخيلة السياسية في جل الدول العربية وبالتالي فإن الدراسات المستقبلية باتت ضرورة ملحة قد تفتح الطريق للإيمان بأن المستقبل ليس دائما قدرا محتوما بل هناك بدائل أفضل من أخرى. كثير من الدراسات الأجنبية وضعت عناوين عريضة حول الخيال السياسي مثل كتاب "المجتمع المدني والخيال السياسي في إفريقيا، وجهة نظر" وكتاب "الصين في الخيال السياسي الأميركي" إن علاقة السياسة بالخيال علاقة مؤكدة والخيال باعتباره جوهر الإبداع الأدبي جعل المؤلف يطرح سؤالا أساسيا حول علاقة السياسة بالأدب ، منطلقا من اعتبار نظرية الأدب الحديثة جزءا من التاريخ السياسي والإيديولوجي لعصرنا الراهن ويلاحظ أيضا أنه ليس للخيال السياسي معنى واحدا بل إنه يتماهى مع النبوءة تارة وتارة مع الإلهام الإلهي وتارة أخرى مع الفكر الأسطوري .. إلخ. ويرى المؤلف عمار علي حسن أن الخيال السياسي من جانب آخر يتعارض والاستبداد لأن الخيال بشكل عام يتغذى على حرية التفكير والتأمل وتصريف التصورات على أرض الواقع. فعلى مستوى التحليلات السياسية كثيرا ما يجد المحللون أنفسهم في حاجة ماسة إلى استعمال خيالهم في التخمين والتكهن واستكناه ما وراء المعاني الظاهرة، كما أن الصحافيين أيضا يطلقون العنان لخيالهم السياسي حتى يوحوا بل ويقنعوا جمهورالقراء بأن لهم دورا ما في المشاركة إن لم يكن التأثير أيضا في صنع القرار السياسي. من أين إذن يستقي الخيال السياسي دعاماته الأساسية؟ ذلك هو محور الفصل الثالث الموسوم بـ "منابع الخيال السياسي" حيث يطرح المؤلف بعضا منها كاستقراء التاريخ والوعي بالمستقبل والدراسات عبر النوعية وتوظيف الخيال الإبداعي إذ أن عديدا من الأعمال الأدبية تعد في بعض جوانبها أو كلها أحيانا ابتكارات لعوالم اجتماعية بديلة للعالم الاجتماعي الواقعي وتخضع لعوالم خيالية في الإحجام وأنماط السلوك والقيم والمثل العليا والأخلاق .. إلخ ولكنها في الحقيقة تكون نقدا غير مباشر للعالم الحقيقي. ولم يفت المؤلف أن يعطي أمثلة على بعض الأعمال الأدبية الأجنبية والعربية التي تبرهن على وظيفة الأدب في إثراء الخيال السياسي مثل خماسية الأديب الفرنسي رابليه "غارغانتوا " و"بانتاغرويل" ورواية الأديب البريطاني جوناتان سويفت "رحلات غاليفر" ومسرحيتي شيكسبير"الليلة الثانية عشرة" و"حلم ليلة صيف" ومسرحية توفيق الحكيم "رحلة إلى الغد " ورواية نجيب محفوظ "ابن فطومة" ومسرحية يوسف إدريس "الفرافير" و"الجنس الثالث" و"المهزلة الكبرى". لكن إذا كان الخيال السياسي هو الملهم للخلق وابتكار الآليات والحلول السياسية لمختلف المعضلات، فما هي إذن سبل تنميته وما هي معوقاته؟ يقترح المؤلف في الفصل الرابع الموسوم بـ "سبل تنمية الخيال السياسي ومعوقاته" عديدا من الطرق التي لا يفصلها عن سبل تنمية ملكات الإبداع بشكل عام حيث يقول "إن علينا أن نستفيد من كل ما تتيحه ينابيع التخيل في استقراء التاريخ وتراكم المعرفة والاستبطان والعمل بروح الفريق .. إلخ. وإذا كانت هذه هي بعض محفزات ومنشطات الخيال السياسي فما هي إذن في المقابل معوقاته؟ في تصور الكاتب هناك عديد من المعوقات التي تقف حجر عثرة أمام الخيال السياسي وتحد من جموحه لتحقيق طموحات المجتمعات وأحلامها منها "الوقوعية" ويعني بها الكاتب قلة الطموح والتحكم البيروقراطي ونقص المعلومات والاستهانة بدورها أو الاستسلام لها والجهل بدور التاريخ في تشكيل ملامح المستقبل. هذه الترسانة من الآليات التي تساعد على تطور الخيال السياسي ما الجدوى من التسلح بها بل والتفكير العميق والمرهق في تطويرها تساوقا مع متغيرات المحيط . في الفصل الخامس الذي وسمه بـ "مجالات توظيف الخيال السياسي" يرى الكاتب أن الهدف البراغماتي من كل ذلك يبقى هو مواجهة الفساد بشتى مستوياته وبؤره تعششه كالفساد السياسي والإداري والمالي وضرورة الارتقاء بالحس الأمني بين أفراد المجتمع. ولم يغب عن ذهن المؤلف تدعيما لكل تصوراته وفرضياته السابقة أن يسرد بعض النماذج الناجحة في مجال التخيل السياسي منها مثلا ما قدمه بريجينسكي في كتابه "الاختيار" والذي يصفه بأنه "تنبؤي من جهة وتوجيهي من جهة أخرى فيما يصف صمويل هنتنغتون الكتاب بأنه "تحليل ألمعي موجز ولكن ثاقب البصيرة للسياسة العالمية المعاصرة والدور الأميركي فيها". ويقول كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة "إن بريجينسكي يقدم حجة بارعة لمصلحة التعددية بتفكيره الواضح المألوف وسعة بصيرته ويكشف لماذا يجب أن نسعى إلى بناء مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة وكيف يمكن أن تساعد الولايات المتحدة الأميركية في قيادة هذا المسعى أيضا". وقدم الكاتب من بين المحاولات المؤسسية الخاصة والمقتعدة على فطنة الخيال السياسي ذلك المشروع الذي أخذه على عاتقه أحد الناشرين في بريطانيا خلال عشرينيات القرن الماضي، حيث تبنى مشروعا طموحا لاستكشاف المستقبل فطلب من مئة عالم وخبير وباحث وأديب أن ينتجوا عدة كتب يتصورون فيها حياة الناس بعد نصف قرن. أما على مستوى العالم العربي فقد قام مركز الوحدة العربية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي بتنفيذ مشروع حول "استشراف مستقبل الوطن العربي ليضع ثلاثة سيناريوهات استنادا إلى الواقع المعيش آنذاك هي "مشهد التجزئة" و"مشهد التنسيق" و"مشهد الوحدة العربية" وهناك محاولات أخرى لا يسع المقام لسردها هنا قامت بها مراكز دراسات عربية أخرى لا تقل أهمية عن مثيلاتها لكن بأهداف واستراتيجيات مختلفة. ختاما لقد سعى هذا الكتاب إلى الإجابة عن التساؤلات الأساسية حول "الخيال السياسي" من حيث تعريفه وأهدافه ومجالات توظيفه ومنابع استبطانه وسبل تنميته أو تعزيزه، ثم قدم بعض التطبيقات العملية عليه، من خلال استعراض تجارب عديدة فردية وجماعية خاصة ورسمية، وهو بذلك يضع تصورا أوليا حول هذا الموضوع الذي لم يحظ على أهميته بانشغال الباحثين العرب كما جاء في خاتمة هذا المؤلف القيم. ومن خلال منصة هذا الكتاب أتساءل من وجهة نظري الخاصة حول ما إذا كانت نخبنا السياسية الحزبية والنقابية ومراكز الدراسات الاستراتيجية السياسية التي تناسلت كالفطر في المغرب في الآونة الأخيرة حول ما إذا كانت تمتلك خيالا سياسيا لبلورة تصوراتها لاستشراف مستقبل المغرب بغية تحقيق برامج سياسية وسوسيوـ إقتصادية ناجعة تكون قادرة على تجاوز معيقات التنمية الاجتماعية؟ وأتساءل أيضا إلى أي حد تستطيع هذه النخب السياسية أن تطلق العنان لخيالها السياسي ووفق أي سقف تفكير سياسي محتمل قد يمنحها الحرية للتعبير عن ذلك من دون مراهنتها الواهية على ركوب الخيال الشعبوي ودغدغة مشاعر الطبقات الكادحة في الحملات الانتخابية ليس من أجل انتشالها من حضيض الهشاشة الاجتماعية وإنما من أجل تحقيق الحد الأقصى من الامتيازات الشخصية لممثلي الأمة. عبده حقي كاتب مغربي
مشاركة :