لا أود التقليل هنا من أهمية البيانات والمعلومات الكمية عن المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، والظواهر الأخرى المصاحبة لها مثل مؤشر الأسهم في سوق المال السعودية أو عدد حوادث المرور أو عدد حالات الطلاق أو عدد المراجعين للمستشفيات أو أعداد الخريجين أو الملتحقين بمرحلة معينة من التعليم أو سوق العمل. وبغض النظر فيما إذا كانت هذه البيانات يومية أو أسبوعية أو شهرية أو فصلية أو سنوية أو كانت مضافة حسب متغيرات داخلية أخرى، فإنه يصعب على متخذ القرار أن يجد السبب الكامن وراء انحراف هذه المؤشرات عن المتوقع أو توجيهها إلى الهدف أو المصلحة المتوخاة. يعود ذلك إلى أن البيانات الكمية وتحليلها عملية في الغالب آلية، وقد يسيء البعض استخدامها، فقد يجد العلاقة بين سلسلتين من الأرقام المتزايدة التي لا علاقة لبعضها بالواقع. احتوت دراسات تربوية وطبية على نتائج إما غير صحيحة وإما غير دقيقة بوضع فرضيات نقبلها على الرغم من مؤشرات وجوب رفضها أو العكس. ولهذا الخلل في البيانات الكمية وطرق تحليلها أو عدم الدراية بها سبب في تضارب كثير من النتائج في الاجتماعات المتخصصة لمختصي الاقتصاد ومتخصصي الطب ومحللي النظم الهندسية. يحاول كثير من المحللين الاقتصاديين التخمين بقدر ارتفاع مؤشر سوق المال أو انخفاضه، وكذلك يعمل مختصو الاجتماع عندما تبهرهم الأرقام غير المقبولة اجتماعيا من حالات الطلاق، ويتوقف مختصو الإحصاءات الطبية أمام زيادة أعداد المراجعين للمستشفيات وحجم تقدم الخدمات الطبية في مواجهة ذلك ومثل ذلك كثير. ويجب التأكيد هنا على أن الكم والرقم ليس بالضرورة هما المقياس الصحيح لمعظم الظواهر في الحياة العملية. فتوجهات الناس أو المجتمع الدينية والقيمية والأخلاقية ومدى رضاهم عن وضعهم الاقتصادي أو البدائل التي يرونها أفضل لا يمكن أن تصل إلى صاحب القرار في أي مجتمع من خلال الأرقام فقط. فالأرقام عن التنمية ومؤشرات الإنجاز لأي إدارة أو مصلحة أو ظاهرة اقتصادية أو اجتماعية تكون صماء وغير مفيدة ما لم يتبع ذلك الدراسة العميقة والمناقشة العلمية واستخدام أساليب التحليل النوعي المتعددة لمعرفة السبب أو الأسباب وتشخيص العلل وإيجاد البدائل الممكنة للحلول. تحليل البيانات النوعية يأخذ في الحسبان الحالة النفسية والتباين بين الناس والدوافع المختلفة للتصرفات أو السلوك في مختلف الميادين والمجالات بما في ذلك الصحة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والأمن وغيره كثير. تثبت جدوى جمع البيانات النوعية وتحليلها أكثر من غيرها في البيانات الكمية، وتوسعت المجالات التي أخذت البيانات النوعية بجدية وعملت لها الندوات والمؤتمرات وتخصص فيها أساتذة الجامعات وكانت هدفا لرسائل علمية في الماجستير والدكتوراه في بريطانيا وأمريكا وكندا. ومع كل ذلك ما زال كثير من أقسام الإحصاء ووحدات التخطيط والرؤى والاستراتيجيات يصر على أن الأمر يقاس كميا بدون توظيف الأساليب النوعية المتعددة، التي منها على سبيل المثال لا الحصر البحث الاثنوجرافي المهتم بالوصف والفهم التفصيلي لبيئة ثقافية معينة وله جذور أنثروبولوجية، حيث إن المهتم ينخرط في مجتمع معين كمراقب أو Grounded كجزء من هذا المجتمع ليفهم طريقة تعاملهم مع موضوع معين في الأحوال الطبيعية؛ النظرية المؤسسة التي تهتم ببناء النظريات بدلا عن تحليلها وتوفر تفسيرات واقعية للأحداث بدون افتراضات؛ دراسة الظاهرة theory التي تهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية وتحديد أسباب تصرفات معينة في المجتمع وطريقة فهمهم Phenomenology الأحداث والأنظمة؛ ودراسة الحالة وتهتم بالتعمق في دراسة حالة معينة وتحليلها بهدف فهمها تفصيليا. جميع أساليب البحث النوعي لا تهتم بتعميم النتائج كما هو الحال في البحث الكمي بينما تهتم بفهم الحدث والظاهرة واستخدام المتغيرات كجزء لفهم الأمور في مسارها الطبيعي خصوصا إذا علمنا أن من وضع القوانين والتشريعات ومن طبقها أو لم يطبقها هم من البشر الذين تحكمهم خلفيات فكرية وثقافية ودينية وبيئية معينة ممكن فهمها من منظور وتجارب البشر أنفسهم، بتوظيف الأساليب النوعية بالشكل الصحيح بهدف فهم ظاهرة أو تغيير تشريع أو تحفيز المجتمع لتطبيق آخر. لاحظت في فترة دراستي في بريطانيا ومن خلال تصفحي مواقعهم المؤسسية التابعة للحكومة أنها تستثمر في منهج البحث النوعي وتضع له ميزانية وتعامله بأهمية البحث الكمي، ذلك لكونهما مدرستين مكملتين لبعضهما البعض وتصبان في تحديد المشكلة وتحديد حل متناسب معها تحت الظروف الخاصة بوضع البلد والوزارة واستعداد المجتمع وتقبله لهذا النوع من الحلول. كما تسنت لي الفرصة لاستخدام منهج البحث النوعي لدراسة مجتمعين مختلفين هما الإنجليزي والسعودي، في مرحلتين مختلفتين، لفهم سلوك المستهلك في المجال الصحي. لا تحظى مدرسة البحث النوعي بهذا القدر من الاهتمام في المملكة، ما قد يسهم في هدر الموارد المتوافرة في هذا البلد المبارك. لضمان نجاح المؤسسات الحكومية، والمنظمات بشكل عام، فإن فهم سلوك بسخاء واحتياجات وتوقعات المستفيد من الخدمة أو المستهلك والموظف وعامة الشعب ومتخذي القرار يجب أن يكون من الأولويات. يتماشى ذلك مع "رؤية المملكة 2030" التي - بإذن الله - سترتقي بمستوى المملكة حكومةً وشعبا. أشدد هنا على أهمية البحث النوعي للتعرف على خصائص المجتمع كافة ولإيجاد حلول واقعية مبنية على براهين نوعية، ويتفوق هذا النوع من البحوث على أساليب البحث الكمي ونتائجها، وذلك لتوفير الكيف والسبب للمهتمين به، واستخدامه كوسيلة للحصول على حقائق اجتماعية تفيد متخذي القرار في الوصول إلى قرارات أمثل وخطط أفضل، بإذن الله.author: نورا بنت عبدالرحمن أبوعمة
مشاركة :