أعمر الزاهي الموسيقي الزاهد الذي لقب بـ"معري الجزائر" بقلم: صابر بليدي

  • 12/23/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عميد الأغنية الشعبية والفن الجزائري أعمر الزاهي رحل عن الدنيا حاملا معه فلسفته وأسراره إلى الأبد، لكنه خلف وراءه قيما فنية وأخلاقية زرعها على مر العقود.العرب صابر بليدي [نُشر في 2017/12/23، العدد: 10851، ص(13)]أعمر الزاهي من سيغني للفقراء مثل فنان الشعب سنة كاملة مرت على رحيل الفنان الشعبي أعمر الزاهي، وسيتذكر عشاق الأغنية الشعبية سليلة الفن الأندلسي، تلك الجنازة المهيبة التي شلّت كل شيء في العاصمة الجزائرية، من أجل أن تودع ذلك البلبل الذي صدح نغما راقيا، وظل وفيا لمدرسة فنية تقاوم في صمت، أمام هجمة الميوعة والتفسّخ الموسيقي. الزاهي واحد من أعمدة الأغنية الشعبية والفن الجزائري التي سخّرت مسيرتها الفنية من أجل أن تبقى للمغنى قيمة ورسالة للفقراء فيها نصيب، كما هو الشأن للنخبة والأرستقراطيين، فقد أضفى بشخصيته الكريمة والمتواضعة لمسة اختزنت الوجه الآخر للمجتمع وجسدت ذوقا فنيا جمع بين الطرب والحكمة وتربية الأجيال. ولا يزال سكان العاصمة يتذكرون كيف شُيع ذلك الجسد النحيل إلى مثواه الأخير بالتهليل والزغاريد في أجواء من الحسرة والحزن، كما شيّع كبار وشخصيات البلاد، والفارق الوحيد أن الزاهي سجّي في قبر مع الفقراء، والآخرون في مربع الكبار بمقبرة العالية، ليذهب الجسد إلى مكانه، وتبقى راية الفن الراقي والذوق السليم شامخة، كما أرادها الراحل. فيلسوف الفن الشعبي رحل الزاهي عن الدنيا حاملا معه فلسفته وأسراره إلى الأبد، لكنه خلف وراءه قيما فنية وأخلاقية زرعها على مر العقود، فقلوب الآلاف من الجزائريين مازالت تنبض للفن الراقي وقيم التسامح والتواضع في زمن هيمنت فيه الرداءة والميوعة على كل شيء، بما فيها الفن والإعلام والإبداع والسياسة والاقتصاد، وغيرها. يشكّل الزاهي رمزا من رموز الموسيقى الشعبية، ويعتبر أحد فلاسفة الفن الشعبي لأنه يدرك رغم عصاميته وعدم تخرجه من كبرى المدارس الموسيقية أن الفن رسالة للتربية الخلقية والتهذيب النفسي والتأطير الاجتماعي، ولذلك ظل نصير الفقراء وحافظ نصيبهم في التمتع بالموسيقى، فغنى لليتامى والمهمّشين والمسحوقين، ورفض أن يكون تاجرا بما وهبه الخالق من قدرات ومؤهلات فنية. ظل طول حياته متعففا راضيا بنصيبه وقانعا بعيشته البسيطة في بيته المتواضع، بل كان كريما ومتصدقا بما لديه، ورافضا لكل أشكال الإغراء وفرص الثراء، كما يفعل الكثير من تجار الفن، فرد بالسلب على دعوات التكريم والأضواء، ولم يستطع وزراء وفنانون كبار إقناعه بالانخراط في لعبة الفن الموجّه والخروج من العزلة. ويقول أصدقاء الزاهي “يصعب لحي الرونفالي بل يصعب للعاصمة أن تنسى فنان الشعب، فقد كان ‘أعميمر’ بسيطا وخجولا ومتعففا، وصديق العائلات الجزائرية ومُحيي أفراح الفقراء.. لقد كان المال والربح المادي آخر همه، بل أحيانا كان هو الذي يدفع من جيبه”. وغير أن البعض يرى أن عزلة الزاهي ساهمت في عزل الموسيقى الشعبية وانحسارها أمام الطبوع الأخرى، وأن رفضه حمل الفن الشعبي من الأحياء الشعبية إلى القاعات الكبرى والمهرجانات والإعلام، بقدر ما حمل قيمة الوفاء والبساطة بقدر ما سمح بتوسع الرداءة والسفه الفني والموسيقي على حساب الرسالة الفنية والذوق السليم، لكن جنازته أكدت بالفعل عراقة وشهرة وشعبية الموسيقى الشعبية في الجزائر، وأثبتت أن رفضها للأضواء لا يعني انسحابها أو نهايتها. الأمازيغية الحضاريةالفنانة الكبيرة الراحلة وردة ووزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي فشلتا في إعادة الزاهي إلى الساحة بعد أن قرر الابتعاد. وحتى حين أمر الرئيس بوتفليقة بتحويله للعلاج في فرنسا، رفض بأدب فنه يجسد أحد أشكال الإبداع الراقي للأمازيغ وتفاعلهم مع الحضارات الوافدة أو المحيطة بهم. فكما كان المفكر الأمازيغي مولود قاسم نايت بلقاسم موسوعة تدب فوق الأرض، كان فنانون كبار كالحاج محمد العنقي وبوجمعة العنقيس وأعمر الزاهي، حماة الإرث الفني الأندلسي، فأبدعوا وطوروا التراث الموسيقي المذكور في طبع موسيقي راق، يحترم القصيدة والمغنى وينشد الفرح والسلام والحب والحرية والتراث والتاريخ. وكانت انطلاقته الفنية في سبعينات القرن الماضي خاصة مع الراحل محبوب باتي والباجي والقصائد العريقة، حيث سجل خمس أسطوانات، وقدّم أول شريط غنائي له سنة 1982 وكان بعنوان “يا ربّ العباد”، ألحقه بعدّة تسجيلات لعدة أغان منها “يا ضيف الله”، “الجافي”، “زينوبة”، “يا قاضي ناس الغرام”، “يا الغافل توب” وغيرها. وقد لعبت البيئة دورها في تنشئة شخصية الزاهي، حيث عاش يتيما بعد وفاة والده وهو طفل صغير ثم حملته عمته لتربيته ورعايته ببيتها في حي الرونفالي بضاحية باب الوادي، وهي أكبر الضواحي الشعبية بالعاصمة، حيث يتفشى التهميش والحرمان، لكن بالمقابل تلقن بالموازاة معهما قيم الأنفة والرجولة والكبرياء، وربما تكون صدمات نفسية قد دفعت بالرجل إلى الانكفاء مبكرا والزهد في هذه الدنيا. وشرع في الغناء مطلع الستينات وهو لم يتجاوز الـ22 سنة، مقتفيا أثر أستاذه الفنان بوجمعة العنقيس الذي تأثر به كثيرا. لكن الزاهي انسحب مبكرا من الأضواء، وكان آخر حفل نشطه بقاعة ابن خلدون بالعاصمة في نهاية الثمانينات، وآخر حضور إعلامي له يعود إلى العام 1990 عندما حضر تكريما بإذاعة “البهجة” للراحل الحاج العنقى، ومذاك اقتصر حضوره على الأعراس العائلية التي كان يحييها في أغلب الأحيان دون مقابل. العزلة والموقف من السلطة لم يستطع لا رفاقه ولا زملاؤه ولا حتى كبار الفنانين والمسؤولين إعادة الزاهي للواجهة إلى أن فارق الحياة. حيث فشلت الفنانة الراحلة وردة ووزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي في إعادته إلى الساحة.البعض يرى أن عزلة الزاهي ساهمت في عزل الموسيقى الشعبية الجزائرية وانحسارها أمام الطبوع الأخرى، وأن رفضه حمل الفن الشعبي من الأحياء الشعبية للقاعات الكبرى والمهرجانات والإعلام، بقدر ما حمل قيمة الوفاء والبساطة بقدر ما سمح بتوسع الرداءة والسفه الفني والموسيقي، على حساب الرسالة الفنية والذوق السليم وحتى حين أمر الرئيس بوتفليقة بتحويله للعلاج في فرنسا رفض بأدب، بينما يقيم غيره الدنيا ولا يقعدها لمزية كهذه، وظل معتذرا عن الأضواء الإعلامية، حيث لم تسجل له مقابلات أو تقارير في أي من وسائل الإعلام. ووصفت الوزيرة تومي الفنان الزاهي بـ“المعرّي”. فكان هذا الوصف الأقرب إلى قراءة شخصية ذلك الفنان الزاهد المتعفف والقنوع، وقالت بشأنه “أعمر الزاهي مدرسة للفن الأصيل، اهتزت مدينة سيدي عبدالرحمن لرحيله، كيف لا وهو شيخ الشيوخ الذي اختار أن يكون إلى جانب الشعب”. وأضافت “سعيت لتكريم الزاهي وذهبت إلى بيته المتواضع، ورجوته أن نقيم له تكريما على غرار التكريمات التي كانت تقام لعدد من الفنانين، لكنه اعتذر لي وقال: لا أستطيع أن أقبل بهذا التكريم لأنني ساعتها أكون قد قتلت نفسي، مستحيل أن أقبل بهذا”. وتتابع تومي “رفض أعمر الزاهي للتكريمات الرسمية لا يعود إلى موقف الفنان من السلطة، لكنه يعود إلى قناعة وفلسفة عميقة تميَّز بها في حياته، فقد كان زاهدا في الدنيا، وتعوّد أن يحيي حفلات البسطاء فقط، وكان يرفض إحياء الحفلات التي تقام مثلا في الفنادق الفخمة. لقد كان مدرسة أصيلة في فنه وظاهرة من المستحيل تكرارها، بل هي إحدى الهبات التي حبا بها الله الشعب الجزائري، فقد كان مثل أبوالعلاء المعري زاهدا في الدنيا متصوفا في فنه”. الراهب والنسيان نسجت حول حياة الزاهي قصص وروايات، وصل بعضها إلى حدود الأسطورة. وأبرز ما يحكيه المقربون منه أنه قضى حياته أعزب ولم يتزوج طول حياته، ويردد هؤلاء في شهادات تناقلتها وسائل إعلام محلية بأن “أعميمر، أحبَّ فتاة من حيِّه إلى حدود الجنون، وحدث أن سافر إلى فرنسا لقضاء العطلة، ولما عاد طلب منه إحياء حفل فلبى الدعوة مثلما تعوّد دائما أن يفعل، ولم يكن يعلم أن العروس هي فتاته التي عشقها، وبعد أن علم بالحقيقة، أصيب بصدمة قوية، وقرر ألا يتزوج إلى الأبد، وقد نظم في حق محبوبته قصيدة خلدتها”.أعمر الزاهي واحد من أعمدة الأغنية الشعبية والفن الجزائري التي سخرت مسيرتها الفنية من أجل أن تبقى للمغنى قيمة ورسالة للفقراء فيها نصيب، كما هو الشأن للنخبة والأرستقراطيين وعرف عن الزاهي شغفه بلعبة الكرة المستديرة، التي تشكل الاهتمام الأول في الحي الذي يضم ناديين عريقين في العاصمة والجزائر عموما وهما المولودية والاتحاد، ورغم الحساسية المفرطة بين أنصارهما، إلا أن أعمر الزاهي ظل محتفيا بهما معا، ومتابعا حريصا لأخبار اللعبة، ومناصرا لفريق برشلونة الإسباني في الكرة العالمية. وقال الرئيس بوتفليقة في تعزيته لعائلة الزاهي إن “هذا المبدع الذي أمضى حياته في خدمة التراث الموسيقي الوطني، أثرى المشهد الثقافي برصيد معتبر من الأغاني والألحان التي حفظها الجمهور، وتمتع بها محبو الفن الشعبي، وأن الفقيد كان من الفنانين الذين تميَّزوا وأبدعوا روائع جميلة تنمُّ عن فن أصيل، فغنى للشعراء الفحول، منتقيا الكلمة المؤثرة والحكمة البليغة والأداء الرفيع بما تطرب له الأذن ويسمو به الذوق”. وأضاف “لقد فقدت فيه الجزائر أحد أعمدة الغناء على مدى عقود طويلة، ولا شك أنه سيظل قدوة للمبدعين ومعينا يفيض عليهم ببدائع الفن، ويمكنهم من المزاوجة بين الأصالة والحداثة، ولئن فقدناه اليوم فلن نفقد فنه الذي سنلمس أثره في الأجيال الجديدة سواء مطربين كانوا أو فنانين”. وأما الروائي واسيني الأعرج فقد كتب عن الزاهي بعد وفاته، يقول “لقد أنهكه المرض والنسيان كما كل الذين سبقوه، وغدا سيحتلون الصدارة في المقبرة. رحم الله فنان الشعب البسيط والطيب أعمر الزاهي. قلبي يذهب هذا المساء نحو أهله وأقاربه الذين تعرّفت على جزء منهم عن قرب، وأحببتهم من كل قلبي، ونحو كل الناس الذين أحبوه بقوة، رحمك الله شيخنا الكبير”. إن عبقرية الزاهي ستجعل المواهب الشابة تقتدي بها في مسيرة الفن الشعبي الجزائري، فهو واحد من المناضلين الكبار في هذا اللون الشعبي. ويُعدّ مدرسة في عقول الناس، وسيبقى الراحل قدوة للأجيال القادمة، بعد أن خلد اسمه بأحرف من ذهب في التاريخ الفني الجزائري والعربي، لأنّه كان صادقا وبسيطا. ورغم فوضى التطورات الاجتماعية والقيمية، ظل الزاهي محافظا على مبادئه وصامدا أمام رياح التغيير وعبثية الحداثة، فلم يبرح لا حيّه الذي ترعرع فيه ولا فنه الذي استلهمه من شيوخه كبوجمعة العنقيس والشيخ العنقي، وبقي رافضا لكل أشكال التهريج والأضواء والشهرة، إلى أن وافاه الأجل في بيته المتواضع بالرونفالي. الحي العريق، الذي اكتشف موهبته فيه وأبدى تعلقه وهوسه بالموسيقى الشعبية في جنباته.

مشاركة :