الهجوم العنيف الذي شنه الإسرائيليون على خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أمام الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، أظهر من جديد الأزمة الحقيقية التي تواجهها القيادة الإسرائيلية، وأكد أن الحكومة برئاسة بنيامين نتانياهو، ليس أنها لا تفكر بحل سلمي للقضية الفلسطينية فقط، بل لا ترغب في إنهاء الاحتلال. فقد أجمعت الأحزاب على موقف واحد رافض خطابَ عباس، حتى زعيم المعارضة، اسحق هرتسوغ، المعروف بمواقفه «المعتدلة» تجاه القضية الفلسطينية، انضم إلى الإجماع الإسرائيلي واعتبر حديث أبو مازن «صعباً ومخيباً للأمل وكاذباً ولكنه ليس مفاجئاً، فأبو مازن ليس صديقاً وليس مؤيداً». بهجومهم على أبو مازن تجاهل الإسرائيليون الرسالة الحقيقية لكلمته وجعلوا من تعبير «إبادة شعب»، عنواناً لحملتهم الهجومية، ووجدها نتانياهو والوزراء من حوله مناسبة لكسب المزيد من دعم اليمين والمستوطنين. وكعادته اختار نتانياهو الرد على خطاب أبو مازن بخطاب هجومي حظي بدعم واسع وبتسميات متعددة «خطاب إبادة شعب»... «خيبة أمل المجتمع الدولي»... «خطاب مخيب للآمال»... «خطاب كاذب»... «خطاب يأس وإحباط»، تسميات كثيرة أطلقها الإسرائيليون على خطاب أبو مازن ليحملها نتانياهو في جعبته إلى الولايات المتحدة، وقد يؤدي به الأمر إلى دفع هذا الملف ليسبق الملف النووي الإيراني الذي كان يشكل الموضوع المركزي في سفر نتانياهو إلى الولايات المتحدة. وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، أعلن صراحة، قبل توجهه إلى نيويورك، أنه سيجعل من خطاب أبو مازن الموضوع المركزي للقاءاته بنظرائه الأجانب ليشدّد على موقفه أن القيادة الفلسطينية الحالية هي قيادة رافضة، لا تتيح التقدم نحو اتفاق، وإنما تعيد العلاقات بين الجانبين إلى الوراء، وفق ما قال ليبرمان، داعياً المجتمع الدولي إلى استخلاص الدروس في كل ما يتعلق بالدعم الذي يقدمه لأبي مازن وللسلطة الفلسطينية بقيادته». يكمل درب عرفات وتجاوز ليبرمان تحريضه على الرئيس الفلسطيني بالقول «لم يكن انضمام أبو مازن إلى حكومة مشتركة مع حماس مجرد صدفة، فهو يكمل حماس عندما يعمل في الإرهاب السياسي ويفتري كذباً على إسرائيل. طالما أنه رئيس للسلطة، فهو سيواصل قيادة الصراع. إنه يثبت في كل مرة أنه ليس رجل سلام وإنما مكمل درب عرفات بطرق أخرى». «لا يوجد شريك للسلام»، هذا هو المصطلح الأكثر استخداماً في رد الإسرائيليين على خطاب أبو مازن. وسفير إسرائيل السابق في واشنطن، مايكل أورن، رأى أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أثبت في خطابه أنه ليس شريكاً للسلام. وفي رأيه، فإن «الزعيم الفلسطيني الذي يتهم إسرائيل التي قامت من رماد المحرقة، بإبادة شعب في غزة وممارسة الأبارتهايد والتطهير العرقي، لا ينوي أن يكون شريكاً للسلام». وفهم أورن من أبو مازن أنه لا يريد المفاوضات «حتى بوساطة أميركية، وليس معنياً بالسلام الثابت القائم على أسس الأمن والاعتراف المتبادل وبأن الرسالة التي بعث بها عبر كلمته، تشكل الطلقة الأولى لمبادرة سياسية فلسطينية تهدف إلى عزل إسرائيل على الحلبة الدولية، ونزع شرعيتها وفرض عقوبات عليها. وفي توقعات الإسرائيليين أن يقدّم أبو مازن الخطة إلى مجلس الأمن، وقد تتم المصادقة عيلها، في شكل جزئي على الأقل. وتنطوي هذه الخطوة على آثار بعيدة المدى، إذ يمكن المجتمع الدولي أن يفرض العقوبات على إسرائيل، والتي ستسبب أضراراً بالغة بالاقتصاد وبقدرة الإسرائيليين على التجول في العالم. والمهم أن الهدف من العقوبات ليس الحصول على شروط أفضل لبدء المفاوضات المستقبلية فقط، إنما وضع حد للمشروع الصهيوني. وفي رأي أورن، فإن خطوة كهذه تشكل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل، ويضيف: «هذا لا يعني أننا لا نملك الوسائل لمواجهتها. يمنع على إسرائيل الجلوس بصمت أمام الخطر الاستراتيجي الذي يطرحه أبو مازن. وكما يخلق رئيس السلطة مساراً يلتف به على المفاوضات، ويحتم على إسرائيل الدفاع عن نفسها أمام العالم، يجب على إسرائيل خلق عملية فاعلة أيضاً، وأن تخلق مساراً يلتف على أبو مازن، ويتم بموجبه دفع مبادرة سياسية تحافظ على المصالح الحيوية لإسرائيل وتشمل ترسيم حدود تضمن مستقبلنا وطابعنا كدولة ديموقراطية يهودية. ويمكن ترك الباب مفتوحاً للمفاوضات المستقبلية حول الاتفاق الدائم مع الفلسطينيين، ولكن فقط عندما تقوم قيادة فلسطينية مسؤولة، تبدي استعدادها للتوصل إلى اتفاق». إحراج الولايات المتحدة عندما يلتف الإسرائيليون حول موقف هجومي على أبو مازن بعد خطابه، فإن اليمين الإسرائيلي يكون الرابح الأكبر، وهذا بحد ذاته دعم كبير لنتانياهو، وربما كان تعبير الخبير السياسي حامي شليف عن ردود الفعل الإسرائيلية على الخطاب الأقرب للواقع الإسرائيلي لدى قوله: «إن الحكومة واليمين في إسرائيل يظهران غاضبين ولكنهما في الواقع يرقصان، فقد منحهما عباس هدية سياسية ثمينة مع بداية السنة العبرية الجديدة». وشاليف كان واحداً من أعضاء الجوقة الإسرائيلية المحرضة على أبو مازن، وتجاوز بوصفه وتعبيره كل الأخلاقيات المتبعة، فقال: «لقد حاول (أبو مازن) التخلص من صورته كبطباط (نوع من الكلاب) لكيري وأوباما، كي يظهر كبلدوغ (نوع من الكلاب) يمكنه تمثيل هنية ومشعل، إذ إن خطاب أبو مازن يعكس الغضب الفلسطيني على الدمار في غزة وإيمان عباس بأن نتانياهو ليس شريكاً، ولكنه كان ينطوي على معانٍ واضحة من الإحباط»، يقول شاليف ويشرح موقفه بالقول: «برابرة الدولة الإسلامية، سرقوا منه الأضواء، وبدل أن يقف على منصة الأمم المتحدة كلاعب مركزي يركب على ضعف السياسة الإسرائيلية في أعقاب «الجرف الصامد»، وجد عباس نفسه يندفع إلى الهامش، يستجدي الانتباه. لقد طلب العودة إلى العناوين من خلال لهجة شديدة، يرافقها التهديد بتحطيم كل الآليات». وفي رأي شاليف، فإن أبو مازن لم يطرح تاريخاً محدداً للانسحاب الإسرائيلي من المناطق، ولم يهدد بتفكيك السلطة الفلسطينية، ولكنه عوض النقص في الخطوات العملية، بلهجة حربية، بل متطرفة، مستمدة من قاموس كارهي إسرائيل: عنصرية وأبارتهايد وإبادة شعب وجرائم حرب. ومثل الكثيرين من ساسة إسرائيل، فضل عباس، أيضاً، العزف على مشاعر الغضب والكراهية المتراكمة لدى ناخبيه في أعقاب حملة غزة، والتنازل عن التصريحات المعتدلة التي كانت ستمنحه النقاط على الحلبة الدولية. ومع أن الاسرائيليين أطلقوا حملة تحريضهم على أبو مازن وأنظارهم مشدودة نحو الأمم المتحدة بانتظار خطاب نتانياهو، إلا أن الأصوات الخافتة لم تتأخر في التحذير من هذه الحملة ونهج نتانياهو، وكعادتها كانت صحيفة «هآرتس» السباقة في هذا الجانب فطرحت السؤال الآتي: «ما الذي توقعته إسرائيل ممن طرح أمامه 2200 قتيل فلسطيني؟ هل توقعت سماع تهنئة «سنة سعيدة وحلوة» باللغة العبرية؟ إسرائيل التي جاهدت منذ تعيين عباس في موقع الرئاسة قبل عقد زمني، من أجل الإثبات بأنه ليس شريكاً مستحقاً المفاوضات، لأنه «ضعيف جداً» أو «متطرف أكثر من اللزوم» أو «لا يسيطر على حماس» أو شريك مخلص لها – لا يمكنها التذمر. فسياستها، وفي مقدمها الاستهتار المتواصل بمطالب عباس المتعلقة بتجميد الاستيطان، هي التي قادت إلى خطابه أمام المجتمع الدولي. وحذرت الصحيفة من الخلط بين اللهجة العلنية التي تنطوي على أهمية كبيرة في خلق أجواء ودفع سياسات، وبين السياسة» وقالت: «عباس، الذي اتهم إسرائيل بإبادة شعب وبارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لم يدر ظهره للعملية السياسية التي بقيت مرساة رئيسية لسياسته». لقد قال: «إن هدف جهودنا هو التوصل إلى سلام من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق حل الدولتين: دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية وكل الأراضي التي تم احتلالها عام 67، إلى جانب دولة إسرائيل». وفي الوقت ذاته، أوضح عباس للجمهور الفلسطيني، لإسرائيل ولدول العالم، أنه سيطمح إلى إجراء المفاوضات المقبلة مع إسرائيل، كرئيس لدولة معترف بها وليس كرئيس لتنظيم أو حركة أو سلطة. إن نيته مطالبة الأمم المتحدة بتحديد تاريخ لإنهاء الاحتلال واستئناف المفاوضات مع إسرائيل في مسألة ترسيم الحدود، تعكس سياسة صحيحة، تهدف إلى محاصرة الاحتلال بجدول زمني، بعد 47 عاماً نجح الاحتلال خلالها بترسيخ وجوده وتفكيك حدود دولة إسرائيل. الحكومة الإسرائيلية تتمسك الآن بتصريحات ثاقبة أطلقها عباس كتمسكها بخشبة النجاة، على أمل أن يساعدها ذلك في تسويق معارضتها لاستئناف المفاوضات السياسية، ومواصلة التمسك بسيطرتها على المناطق الفلسطينية. ولكن الاختباء وراء خطاب عباس ورشق الشعارات ضده لا يعكسان إلا الجبن السياسي والعجز القيادي، ذلك لأنه أمام الأجزاء السياسية التي عرضها عباس في خطابه، فإن إسرائيل لا تملك رداً استراتيجياً».
مشاركة :