تكعيبية الحصار

  • 12/25/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بعدَ رحلةِ بحثٍ في الواقع السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ لأوروبا خلال الفترة المُمتدّة من عصر النّهضة إلى بدايات القرن العشرين وجدت تماثُلاً يقترب من التّطابق بين ما سبق وحدث وما يحدث الآن، وكما يُقال: ما أشبه الليلة بالبارحة. مع الأخذ في الاعتبار الاختلاف في التّوقيت الزّمنيّ، حيث الفارق يزيد قليلاً على مئة عام، وكذلك الموقع الجغرافيّ، فما حدث في أوروبا في الماضي يتكرّر في العالم العربيّ في الحاضر. ربيع أوروبا: على أنقاض الحضارة الإسلاميّة انطلقت الثّورة الصّناعيّة، وتحديداً في مُنتصف القرن الرّابعَ عشرَ الميلاديّ، وبدأ عصر النّهضة يشمل أوروبا فتألّقت وازدهرت. إلى أن جاء العام 1848 عندما انطلقت الثّورات الأوروبيّة الّتي عُرفت بعدّة أسماء منها: «ربيع الشّعوب» و»ربيع الأُمم» و»الثّورة الأوروبيّة» و»عام الثّورة». فتغيّرت على إثرها التّركيبة الاجتماعيّة وتحطّمت الكثير من الفوارق الطّبقيّة. تلك الثّورات كانت تسعى في الأساس لإسقاط الكيانات الإقطاعيّة، وإقامة دول وطنيّة مُستقلّة، ومن جرائها سقطت ممالكُ ونهضت جمهورياتٌ. ورغم أنّ تلك الحركات الثّورية، وما أحدثته من اضطرابات سياسيّة شملت أركان القارّة الأوروبيّة، لم يكن بينها اتفاقٌ مسبقٌ أو تنسيقٌ، لكن الأكيد أنّ الإصلاحيّين وأبناء الطّبقات الوسطى والعمّال الّذين قادوا الثّورات في تلك الدول، كان يجمعهم شعورٌ عامٌّ بعدم الرضا والسخط على القيادة السياسيّة، وكانت مطالبهم تشمل المُشاركة الديموقراطيّة في الحكومة وحريّة الصِّحافة وإعادة تشكيل قطاعات الجيوش الحكوميّة القائمة، ليتوافق ذلك مع ازدياد النّزعة القوميّة لدى الثّائرين. الفن والواقع: دأب الفنان منذ القدم على البحث عن الجمال، والخير، والحقيقة. ولطالما كان الفنان مُرتبطاً بواقعه، مُعبّراً عن قضاياه حتّى وإن كان ممَّن يوصفون بأنّهم يُبدعون من «برج عاجيّ» أيْ منفصلون عن واقعهم، رغم يقيني بأنّه لا يوجد إبداع مُنفصل عن الواقع، فالإبداع لا يصدر إلا عن الواقع، وإنْ بدا مثالياً أو غير مُرتبط بأحداث آنيّة بعينها. ودليل ذلك أنّ الكثير من المبدعين والحركات طالتهم اتّهامات وتصنيفات مُتسرّعة، قبل أن يصبحوا مُؤثّرين وأصحاب رسائل جماليّة وإنسانيّة. ولعلّ «التكعيبية» تُعتبر من أهمّ الحركات الفنّية الطّليعيّة التي دفعت بقوّة نحو ثورة شاملة في أساليب التّعبير الفنيّ، والتي يمتدّ تأثيرها إلى اليوم. وكانت البداية الفعليّة في العام 1907 عندما رسم بابلو بيكاسو لوحته «نساء افنيون» التي صدمت الأوساط الفنية بما تحمله من تغيّرات جِذريّة في المنظور والنِّسب والألوان الأحادية ذات الدّرجات المختلفة. وكان شعار بيكاسو بعد ولعه بالفنون البدائيّة والأقنعة الإفريقيّة، يعتمد معقوليّة تشويه نِسب الجمال المعروفة بشكل مدروس للخروج بمعالجات جديدة لمفهوم الجمال مما يضفي جمالاً من نوع خاصّ. الحلّ التكعيبيّ: استمرّ بيكاسو ورفيقه في التكعيبية جورج براك، يبحثان ويطوّران تلك الحركة الثّوريّة في عالم الإبداع، حتى انتشرت وتأثّر بها الكثيرون، وانتقلت إلى أشكال التّعبير الفنّيّ الأخرى. ووجد فيها الفنانون ضالتهم في مُحاولات تفسير الواقع المُتشظِّي والمُحتقن في أوروبا إبان الحرب العالميّة الأولى، بحيث يتمّ فكّ الشّظايا ومُحاولة تركيبها بشكل أفقي للوصول إلى صورة شاملة تكشف الحقيقة الغائبة حينها. ولعلّ أبرز مثال على ذلك جداريّة بيكاسو الأشهر «الجورينيكا» التي لفتت أنظار العالم لأحداث الحرب الأهليّة الإسبانيّة وتحوّلت إلى أيقونة مُضادّة للحروب والمُعاناة التي تسبّبها للأفراد وتجسيداً رمزيّاً للسلام المنشود. والحقيقة يُمكن تشبيهها بالمكعب ذي الأوجه السّتة، بحيث لا يمكن إدراكُها بشكل كامل دون رؤيتها من كلّ زواياها، ومن هذا المُنطلق بدأ كثير من الفنانين يفكّكون العناصر الواقعيّة، ويعيدون تركيبها بمقاييس ومعايير بقدر ما تبتعد عن الواقع، بقدر ما تملك القدرة على تفسيره والتعبير عنه كما لم يحدث من قبلُ. البحث عن مؤلّف ظلّ الكاتب الإيطالي لويجي برانديلو يكتب القصائد والقصص القصيرة طوال حياته، وحين بلغ الخمسين أدرك أنّ الخلود الحقيقيّ في سماء الكتابة والإبداع يكون لكُتّاب المسرح أكثر منه للشعراء والقصّاصين، فقرّر كتابة المسرح وتبنّى النهج التكعيبيّ في مسرحيته الأشهر «ست شخصيات تبحث عن مؤلّف»، وكانت تحكي عن أبٍ وزوجته وأبنائهما يقتحمون إحدى الفرق المسرحية أثناء تدريباتها. ويُفاجِئون الموجودين بأنّهم شخصيات فكّر فيها مؤلّف وبدأ في كتابة حياتهم لكنه لم يُكمل، وهم الآن يبحثون عن مسرحيّ يتبنّى قضيّتهم ويعمل على تحويلهم من شخصيات ناقصة «عبثية» تعيش في العدم إلى شخصيات مُكتملة لها نهاية «منطقيّة». قلوبهم شتّى: عندما يبدأ أفراد العائلة، بعرض حكايتهم، يُصاب أعضاء الفرقة المسرحيّة بالدّهشة والحَيرة أكثر مع كلّ شخصيّة تُدلي بحكايتها، فيتغيّر موقف المُستمعين من أفراد العائلة مع كلّ حكاية جديدة. فمن يبدو ضحيّة حين يروي جانبه من الحكاية، يصبح جانياً عندما يسرد الحكاية فردٌ آخرُ من العائلة الغريبة. فهناك اتّفاق من حيث الشّكل واختلاف كثير من حيث التفاصيل، كما أنّ كلّ شخصية يشغلها وجودها الذاتيّ وخلاصها بمعزل عن البقية. وخلاصة حكايتهم أنّ الزوجة أنجبت الابن الأكبر من الأب، ثم هجرت بيت الزّوجية ووقعت في غرام شخصٍ آخرَ وأنجبت منه بنتَين وولداً، لكن حين يموت عشيقها تعود للعيش في حياة بائسة في المدينة التي فرّت منها. ونتيجة لحالتهم المزرية وقعت الابنة الكبرى في براثن الدعارة، ويتصادف أنْ يُقيم الأب معها علاقة عابرة دون أنْ يعرف من تكون، لكن الأمّ تُدرك ما حدث وتخبر الزّوج بالحقيقة، فيشعر الرجل بالعار مما فعل، ثم يدعو الزوجة وأبناءها للإقامة عنده. فتزيد مشاكل الأسرة، فالابن الكبير لا يطيق وجودهم في البيت، وتزداد الأمور سوءاً عندما تغرق الطّفلة الصّغيرة في الحوض أمام ناظرَي الأخ الصّغير، الذي يُقدِم على الانتحار، وهنا توقّفت أحداث حكاية الأسرة التي لم تكتمل. تكرار ما حدث تلك الأسرة غريبة الشأن، المُفكّكة، ما هي إلا كناية عن الواقع الأوروبيّ قبيل الحرب العالميّة وخلالها. لكن يقيني أنّ مضمون «ست شخصيات تبحث عن مؤلّف» ينطبق تماماً على دول الحصار أكثر ممّا ينطبق على دول أوروبا في ذلك الوقت؛ لأن الأوروبيّين كانت خلافاتهم واضحة وغير خفيّة، بينما دول الحصار تبدو لِلْبُلْهِ كتلة مُتماسكةً، بينما الواقع يكشف أنّ العلاقات التي تجمعهم واهية، وربما أوهن من بيت العنكبوت. فهم كعصابة اللصوص المتوحّدين في الجريمة والبحث عن المكاسب، لكن من السهل أن تعصف بهم الخلافات لأدنى سبب، ودليل ذلك التّناقضات والتباينات في المواقف والتّصريحات في كثير من الأحيان، فإذا حاولنا المُقاربة بين شخصيات المسرحيّة، سنرى أنّ إحدى تلك الدول تمثّل الأب، ودولة أخرى تمثّل الزوجة الخائنة، ودولة ثالثة تمثّل العشيق والابن السّاخط المحمّل بالعقد النفسيّة، الّذي يسعى للانتقام من الجميع، ودولة رابعة تُشبه البنت الّتي امتهنت الدعارة من أجل المال بعد تخلّي شركاء الإثم عنها. التكعيبية الجديدة يَهيم العالم حالياً في لجّة يمٍّ تعصف به الفوضى، تتقاذفه أمواج الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة. ومن الصعب بمكان إدراك حقيقة ما يجري لغرابته وتحوّلاته المُتسارعة، الأمر الذي يؤجّج الجدل ويزيد وتيرة الصّراع بين الشعوب بكلّ أطيافهم، عبر وسائل الإعلام وباقي الوسائط. لم يعد الأمر قاصراً على الخاصّة. كما أن سفور المواقف - التي أصبحت في أحيان كثيرة «زئبقيّة»- لا تكتفي بأوجه المكعب السّتة، بل تتشكّل وتتلوّن وتتغيّر بشكل مُتواصل وغير متوقّع، لا من حيث التوقيت ولا من حيث الشكل. مما يزيد تعقيد المشهد، ويضاعف السيناريوهات المُحتملة للصّورة النهائيّة، التي رغم تفاؤلي، لا أستطيع إلا أنّ أراها مُتّشحة بالسواد على المديَين القريب والمُتوسّط. تدجين الشّعب: الفجور في المواقف دفع دول الحصار لتكميم الأفواه، وكلّ من يجرؤ على التّعليق أو الرّفض يكون مصيره التنكيل والاعتقال. وتجاوز الأمر ذلك ليطال من يدعو للخير والإصلاح، بل حتّى من آثر الصّمت. وليس ذلك غريباً على الدّول القمعية والبوليسيّة، لكن اللافت في أزمة الخليج أنّ الأنظمة المُتجبّرة في المنطقة لم تكتفِ بتدجين الإعلام والعلماء وأصحاب الرّأي، بل تجاوز ذلك ليطال الفنّ. فتساقط الفنّانون تباعاً، في وحْل التحريض وشقّ الصفّ، والإساءة للحكومات والشّعوب. ضاربين عرض الحائط برسالة الفنّ التي ترفض العنصريّة والحزبية، وتنبذ العنف والشرّ. وأي شكل فنّي لا يتبنّى الجمال والخير والبحث عن الحقيقة، يعدّ مُنحرفاً وتنتفي عنه صفة الفنّ. غباء بلا دواء. التّماهي في الفجور، وعدم الاكتراث بالنتائج الكارثيّة على كلّ المُستويات. وتطبيق مقولة «عليَّ وعلى أعدائي» منطق يعبّر عن قمّة السذاجة والغباء. لأنّ البداهة تقتضي التخلّي عن العدوان إذا كان الثّمن المدفوع في سبيل ذلك باهظاً، وإذا لم تصل للهدف الذي تريد، فما الجدوى من الاستمرار؟!! لكن الغريب أن تتمادى دول الحصار في فجورها، مع علمها اليقيني أنّ إطالة أمد الأزمة تزيد قطر عزّاً ونصراً، بينما لا يحصدون في المقابل إلا خسارة وصغاراً أمام العالم أجمع. ورغم ذلك لا يفكّرون في التراجع عن غيّهم، بل يتمادّون أكثر وأكثر. ولا ينطبق عليهم سوى تعريف أينشتاين للغباء: هو تكرار فعل الشيء، وبذات الخطوات والآليات، مع انتظار نتائج مُختلفة. خاتمة: مهما حاولنا هذه الأيّام أن نفكر بعقلانية، بحثاً عن سيناريو للنهاية، سيخوننا العقل، ويخرج المنطق لنا لسانه ساخراً، وينعتنا بالبلاهة، لأنّنا لا نرى إلا جانباً صغيراً من أحد أوجه المُكعب العظيم، المفرط التعدّد. رغم ذلك يبدو أن إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيونيّ، ما هو إلا بداية النهاية. ومهما بدا على السّطح أن الخونة والأنذال كثر، فالأمّة لا تعدم الشرفاء الذي يساوي واحدهم عشرات المُتصهينِين. (أما ترى البحر تعلو فوقه جيف وتستقرّ بأقصى قعره الدرر؟). ويقيني أنّ النصر قادم لا محالة، فكلما زادت انتصارات الكيان الصهيوني ومن يواليهم ويناصرهم، زاد الوعي، ونهضت الهمم، وأصبح النصر قريباً، ربما أقرب مما نعتقد. تغريدة: لو عاصر «داروين» مؤامرة #حصار_قطر لأعاد التفكير في نظرية «النشوء والارتقاء»، سيعيد صياغتها لتكون التدني والانحناء!!!.   t: @Saoud_Ali_ email: saoud@raya.com

مشاركة :