هناك في تاريخ الإبداع أعمال فنية أو أدبية تفرض نفسها فرضاً ولو بعد أزمان من ظهورها للمرة الأولى، ليس فقط كإبداع يتعامل معه المتلقي على هذا النحو، بل كذلك، وبشكل خاص، كحاجة عضوية للمرحلة الجديدة إذ يبرز فيها العمل بوصفه أداة نضال ضد الأفكار المسبقة وضروب التعصب وسوء استخدام التاريخ والنظرة إليه. ومن هذه الأعمال في ما يعنينا هنا، كتب أو أفلام أو حتى مسرحيات وأعمال فنية وأدبية أخرى يمكنها في هذه المرحلة التي يعيشها الإسلام بالذات، أن تقدّم عن هذا الدين صورة مختلفة عن الصورة التي باتت في العقود الأخيرة ملتصقة به، أحياناً بفعل مناورات ومؤامرات معادية تحاول ان تنتقص من قيمته يقوم بها معادون للدين، ولكن في معظم الأحيان بفعل ممارسات أولئك الذين يعطون لأنفسهم الحق في ان يمارسوا العنف والإرهاب والإجرام باسم الدين، غير مبالين بمئات الملايين من المؤمنين الذي يصرخون انه لا يمكن هذا ان يمارس باسمهم. طبعاً نعرف ان هذا حدث ويحدث لكل الأديان، لكن المؤلم أنه يحدث في أيامنا هذه لدين المسلمين الذين تتحول ديارهم، بفعل المسلمين انفسهم الى أنهار من الدماء وساحات تُقطع فيها الرؤوس وتُدمّر العقول ويُضطهد الآخر. ومن هنا تنبع الحاجة الى استنهاض همم الإبداع - بين همم كثيرة أخرى مطلوب استنهاضها - للقول ان هذا ليس من الدين في شيء. ولعلنا لا نكون مخطئين إن نحن قلنا هنا إن ثمة ضروب ابداع كثيرة يمكنها ان تكون ذات فائدة هنا ويحسن العودة إليها. ومن المؤكد ان فيلم «الرسالة» للراحل مصطفى العقاد واحد منها. والحال ان قيمة هذا الفيلم تتضاعف إن نحن تذكرنا أن المجرمين الذي اغتالوا العقاد في عمان قبل سنوات، كانوا إخوة المجرمين الذين يغتالون الإسلام نفسه اليوم. > ونعرف أن «الرسالة» هو الفيلم – الحلم الذي حمله مصطفى العقاد طوال سنوات من حياته، ثم تمكن من أن يحققه في إنتاج عالمي ضخم على النمط الهوليوودي - ما يعني بشكل واضح انه فيلم شاء له صاحبه ان ينتشر في العالم كله كي يُري ذلك العالم بعض الحقائق التي يجهلها عن ثورية الإسلام وإنسانيته وسماحته -. ولقد عرض الفيلم للمرة الأولى في العام 1977 في اكثر من عاصمة أوروبية وأميركية في انتظار الافراج عنه عربياً، والسماح بتداوله في العواصم العربية، إذ نعرف ان هذا الفيلم الذي قدّم عن الإسلام صورة مميّزة لفتت نظر العالم الخارجي يومها، لم يلق ترحيباً من الرقباء العرب ولا من الهيئات الرسمية في الكثير من البلدان العربية لأسباب قلما تبرع أحد بتوضيحها. مهما يكن فإن الجمهور العريض شاهد الفيلم أولاً في باريس، -حيث عُرض عامئذ في صالات عدة، وفي نسخ ثلاث: عربية، وإنكليزية، وأخرى مدبلجة الى الفرنسية، كانت الأسوأ، على أي حال - قبل أن يعود وينتشر انتشاراً كبيراً في العالم وبخاصة في البلدان التي تمنعه، على شكل اسطوانات مدمّجة معظمها مُقَرْصَن! > وإذا كان «الرسالة» قد عرض أول ما عرض، في باريس وسط جو ثقافي مشحون الى حد ما برائحة الشرق والاسلام، فإنه بتصدره واجهة احدى اكبر صالات الشانزيليزيه طغى على مختلف النشاطات الاسلامية الباريسية... فدعاية الفيلم العملاقة راحت تغطي معظم محطات المترو... الى درجة انها تمكنت من جذب أعداد كبيرة من المتفرجين العرب والاجانب. ولكن في الوقت الذي أبدى فيه غلاة المتحمسين تأكيدهم ان نسخة الفيلم العربية (من بطولة عبدالله غيث ومنى واصف) أروع من النسخة الاجنبية (التي يمثلها انطوني كوين وأيرين باباس)، وفي الوقت الذي ظهر فيه مصطفى العقاد (منتج الفيلم ومخرجه) على شاشات التلفزة، ليتحدث عن فيلمه بحماسة شديدة ويروّج له ويشير الى بعض مشاريعه المقبلة، في هذا الوقت بالذات، كان متفرجو الفيلم يجدون صعوبة فائقة في إخفاء بعض خيبة الامل التي يصيبهم بها الفيلم، ان لم يكن على صعيد مضمونه، الحافل باللحظات الجيدة على اي حال، فعلى صعيد تقنيته الهوليوودية التي ضحّت ببساطة الإسلام لمصلحة الفخامة الشكلية، والإبهار وضخامة الإنتاج، معتمدة ما يتناقض مع المنطق الهادئ المتقشف الذي يتماشى مع روحية الفترة التي يروي الفيلم احداثها. > من ناحية الموضوع، تناول «الرسالة» مرحلة نشوء الاسلام – تلك المرحلة التي كانت أصفى مراحل الإسلام وأكثرها ثورية -... فقدّمها جيداً، مبرزاً كل مزاياها الايجابية الصافية، من علاقة الاسلام بالأديان الاخرى في تلك المرحلة، معرّجاً على قضايا حساسة وحاسمة كنظرة الاسلام الى المرأة، ومسألة الصراع الاجتماعي في الاسلام، وعلاقة الفكرة الدينية بالواقع المادي... وفي هذا المجال يلاحظ المرء ان السيناريو الذي تشارك في كتابته عدد من أبرز الأدباء المصريين ومن بينهم توفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وجودة السحار وغيرهم، أتى واقعياً الى حد بعيد، كما اتى منصفاً لتلك المرحلة الاسلامية الخطيرة والهامة. وهو إنصاف لا يقلل من شأنه، نوع من التوفيقية والانتقائية الذي سيطر عليه، ولا الطابع المسرحي السردي الذي طغى على الحوار، ولا شاشة استقبلت صوراً ضخمة ومناظر هائلة، قد تكون شُغلت بدقة وإتقان، لكنها شُغلت ايضاً باحتفالية، مستفيدة من بعض استعارات مشهدية من أمهات الافلام التاريخية الهوليوودية، ولكن غير مستفيدة على الاطلاق من تجارب اكثر حداثة وجدية وواقعية في التعبير عن مرحلة تاريخية معينة (أفلام بازوليني عن السيد المسيح وأوديب، مثلاً...). لقد قدّم الإخراج حكاية نشوء الدين الاسلامي بشكل كان من الواضح انه قادر على الوصول الى الجمهور العريض الذي يهتم عادة بالبطولات الفردية... كما حوّل احداث السيناريو الى احداث سردية متعاقبة تقدم صورة مبسطة للتاريخ آخذة في حسبانها ضراوة الحواجز التشريعية والعقبات الدينية التي كان من المتوقع انها ستحول دون الإمعان في التحليل، ما حال بين المخرج، وبين أن يقدم صورة انتروبولوجية تفصيلية للبيئة التاريخية والجغرافية التي سبقت ظهور الاسلام وواكبت هذا الظهور. > فـ «الرسالة» اكتفى بأن قال للذين يعرفون الكثير او القليل عن الدين الاسلامي وتاريخ ظهوره، أشياء رائعة يعرفونها ويحفظون تفاصيلها عن ظهر قلب ولا يمكن ان يختلف عليها اثنان منهم، وإن كان قد بالغ في تطعيمها بذلك الحس «المانوي» (ثنائية الأسود والأبيض) الذي قسم العالم والدول والقبيلة الى أخيار وأشرار وجعل الانتماء الى اي من هذين، بفعل الصدفة وحدها، او بفعل الاختيار الوجداني في احسن الاحوال، مع حدّ لا بأس به من التحليل الاجتماعي للعوامل الحقيقية التي حددت اختيار رجال القبائل بين أتباع دين محمد، او الوقوف ضده. > ولكننا، اذ نقول هذا، لا ننكر ان الفيلم – بشكل اجمالي – يحمل آثار جهد وتعب كبيرين، فعلى صعيد الانتاج، يحمل الفيلم غنى واكبه ثراء ما، في بعض النواحي التقنية: الصورة – الديكور – الملابس – إضافة الى جمال بعض اللحظات الموسيقية التصويرية التي كتبها الفرنسي موريس جار، وبخاصة تلك التي لم يحاول فيها استعادة بعض الموسيقى التي كان قد كتبها لأفلام اخرى (مثل «لورانس العرب» و «الدكتور جيفاغو»)، او استلهام مقاطع بأسرها من موسيقى رمسكي - كورساكوف (شهرزاد – وعنتر). > ومهما يكن من أمر هنا، علينا أن نتذكر دائماً ان مخرج الفيلم - الذي كان منتجه أيضاً في الوقت نفسه - إنما كان يعرف انه في مثل ذلك العمل الفكري/ الفني/ الديني إنما كان يتحرك وسط رمال متحركة، ويعرف ان اي انزياح عن الدروب الممهدة، حتى وإن كان انزياحاً يخدم الدين حقاً وصورة هذا الدين في العالم أجمع في وقت كان فيه أهل العنف والإرهاب باسم الدين قد بدأوا يطلّون برؤوسهم، معناه القضاء على فيلمه، ما يبرر الكثير من المآخذ التي كان يمكن حينها أخذها على «الرسالة». لكن مرور الزمن أسقطها بالتأكيد. > كان يمكن فيلم مصطفى العقاد هذا ان يكون بداية لسلسلة من أفلام تُقدم، للغرب بخاصة، صورة مغايرة للإسلام تختلف عما صوّره هذا الغرب، لكن الرقابات العربية وأدت المحاولة بحيث إن العقاد لم يتمكن من ان يحقق من بين كل مشاريعه الطموحة سوى فيلم آخر واحد عن المناضل الليبي عمر المختار...
مشاركة :