مع تفاقم نسب الجوع في منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وبلوغ أعداد الجوعى أكثر من 40 مليون شخص في المنطقة، يتركز أغلبهم في دول النزاع، أطلقت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة، نداء تحذير من مغبّة تفاقم الأوضاع في المنطقة، داعيةً إلى بذل مزيد من الجهود للتعاون والتضامن من أجل القضاء على الجوع، وكذلك تكثيف العمل لإنهاء النزاعات والعودة إلى تحقيق التنمية، وذلك بعد بلوغ معدلات الخلل الغذائي في دول النزاع 6 أضعاف معدلاتها في الدول الأكثر استقراراً في المنطقة. وعلى هامش إطلاق المنظمة تقريرها بعنوان «نظرة إقليمية عامة حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا لعام 2017»، التقت «الشرق الأوسط» الدكتور عبد السلام ولد أحمد، مساعد المدير العام لـ«الفاو» والممثل الإقليمي في مكتب المنظمة الإقليمي للشرق الأدنى وشمال أفريقيا، والذي أكد أن النزاعات التي يشهدها بعض دول المنطقة هي السبب الرئيس وراء تدهور حالة الأمن الغذائي، خصوصاً مع ارتفاع معدلات الجوع بين سكان هذه الدول إلى مستوى 27.2%. وأكد ولد أحمد أن منطقة الشرق الأوسط مرت بأزمات وظروف كبرى أدت إلى تغير جذري في معادلة الأمن الغذائي، مؤكداً أن الحكومات حاولت وضع استراتيجيات لدعم استمرار حصول المواطن على قوت يومه بأقل كلفة، وذلك نابع من إيمانها بأن الأمن الغذائي هو أولوية دائماً... لكنه أشار إلى أن تلك الاستراتيجيات أسفرت أحياناً عن بعض السلبيات السلوكية، حيث أصبح بعض المواطنين لا يدري قيمة الغذاء الحقيقية، ما أدى إلى اتساع فجوة الهدر.وإلى أبرز ما جاء بالحوار... > حسب رؤية «الفاو»، تنقسم منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا إلى منطقتين فرعيتين، الأولى تخص مجموعة الدول التي تشهد نزاعات، والأخرى لباقي الدول الأكثر استقراراً... ما أبرز نقاط الاختلاف في خطط المنظمة لكلتا المجموعتين؟ - هذا التقسيم يهدف بالأساس إلى ضرورة إبراز دور النزاعات وأثرها في المنطقة... وبالطبع مرجعية «الفاو» الأساسية هي الأهداف الأممية التي اتفقت عليها جميع الدول، والتي تتضمن القضاء على الفقر والجوع وبلوغ 17 هدفاً تنموياً تمت المصادقة عليها من الجمعية العامة العمومية للأمم المتحدة، لكن طبيعة العمل في البلدان التي تعاني من النزاعات يختلف، لأن هناك الحاجة الملحة أولاً إلى المساعدات الإنسانية، وذلك يعني بالنسبة إلى «الفاو» دعم المزارعين والمجموعات الريفية على الصمود أمام الانعكاسات السلبية للأزمات والحروب والعنف، ويتطلب كذلك مساعدة الدول على التحضير لما بعد الحرب، والتحضير والتخطيط لمرحلة إعادة الأعمار. والمقاربة التي تتبعها «الفاو» لدعم البلدان التي تعاني من الأزمات مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا وحتى فلسطين هي دائماً مقاربة مبنية على 3 مسارات، حيث نحاول أولاً أن نقدم الدعم لصغار المزارعين عبر توفير البذور والأسمدة، لأنه في تلك الظروف عادةً أول ما يحتاج إليه المزارع هو المدخلات الزراعية، حيث لم تعد الأسواق تعمل كما كانت، وبالتالي توفير المدخلات أصبح هو الحاجة الأساسية، ليبقى مكانه ويظل ينتج. والمسار الثاني، هو دعمه على الصمود عبر المشروعات، مثل تقديم بعض المساعدات المالية مقابل العمل، أو الدعم النقدي لمساعدته على صيانة التجهيزات وعلى قيام بعض البنى التحتية الزراعية الخفيفة، مثل شبكات الري على الحقل، إلى جانب حماية وزيادة الأصول الحيوانية، من حيث توفير الأعلاف، وحملات ومدخلات تلقيح وعلاج الماشية، وتحسين القدرات البيطرية، وإعادة توزيع الحيوانات؛ وغيرها. أما المسار الثالث، فهو التحضير لإعادة الإعمار ووضع أسس للتنمية المستدامة عن طريق السياسات والخطط التي نتناقش فيها مع الدول. > فيما يخص المجموعة الأولى، كيف تتعامل المنظمة مع الموقف على الأرض في ظل غياب جهة واحدة يمكن التعامل معها، على سبيل المثال في ليبيا يوجد تنازع على السلطات وكذلك في سوريا؟ - نحن نتعامل مع كل الحكومات المعترف بها شرعياً في كل الدول، هذا هو مبدأ «الفاو»... طبعاً هناك أمور يفرضها الواقع، على سبيل المثال في سوريا وفي اليمن هناك أمور مفروضة في الواقع، وبالتالي نتعامل في ظل هذه الأمور، والحكومات تتفهم عادةً ذلك لأنهم يدركون جيداً أن «الفاو» تعمل من منطلق حُسن النية، والهدف لـ«الفاو» هو مساعدة المزارعين ومساعدة المواطنين أينما كانوا، وذلك متقبَّل من طرف الحكومات... وبالتالي نحن نعمل أساساً مع الحكومات الشرعية ونتناقش معها حول السياسات والخطط بما فيها الخطط المستقبلية، وفي الميدان نعمل مع المزارعين أينما كانوا، وأظن أن الكل يتفهم ذلك. > وهذا يتم على مستوى الدعم أم على مستوى جمع البيانات المطلوبة للتقارير؟ - هذا يتم على جميع المستويات في كل المناطق، في سوريا وفي اليمن نعمل على دعم المزارعين وتوفير المدخلات الزراعية ودعم القدرات كما قلت... ونعمل كذلك على رصد البيانات حول حالة الأمن الغذائي، فنحن في منظمة «الفاو» وشركاؤنا من الأمم المتحدة، خصوصاً برنامج الأغذية العالمي، و«يونيسيف»، نعمل معاً لرصد حالة الأمن الغذائي في اليمن كل 3 أشهر، وهذا لا يمكن أن يتم دون أن نعمل في جميع أماكن اليمن وجميع الأماكن التي تعاني من النزاع. > في مناطق النزاع، هل ضمن الخطط المطروحة لـ«الفاو» العمل على إنشاء مجتمع غذائي متكامل فيما بعد الإعمار وإعادة التأهيل ما يوفر للمنطقة مستقبلاً مستداماً بشكل أكبر؟ - «الفاو» مثل أي منظمة تابعة للأمم المتحدة هي منظمة دول، أي أن أهميتها بالأساس تكمن في قدرتها على مساعدة الدول لتلبية الحاجات التي تم تأسيس «الفاو» من أجلها، وبالتالي نعمل فعلاً في كل البلدان التي تعاني من هذه الأزمات... حين نتكلم عن إعادة الإعمار نتكلم كذلك عن إعادة رسم سياسات تكاملية جديدة، ونحاول أن نقنع البلدان ألا نعود إلى نقاط الضعف التي قد تكون تسببت أصلاً في بعض المشكلات التي حصلت لاحقاً، وهذا أمر جوهري. على سبيل المثال في سوريا، وبينما نعمل على دعم المسار لإعادة الإعمار، سنشارك في عملية مراجعة شاملة للقطاع الزراعي، وكذلك في بلدان أخرى... والهدف الأساسي وراء هذه التشاورات هو وضع سياسات تكاملية لا تعيد أخطاء الماضي، بل تساعد على إعادة التوازن للقطاع الزراعي، وتساعد على أن يكون القطاع داعماً أساسياً لعملية التنمية الاقتصادية والقضاء على الفقر والجوع وأن تكون عملية التنمية الزراعية قابلة للاستدامة اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً. > بالنسبة إلى مجموعة الدول الأكثر استقراراً، ما الأسباب الأساسية التي أدت إلى تراجع الأمن الغذائي في هذه الدول، خصوصاً مع عامل تضاعف النمو السكاني؟ - في الحقيقة وضعية الأمن الغذائي في هذه الدول ظلت مستقرة، لم تشهد تحسناً ولم تشهد تدهوراً، ولكن لا بد من التذكير بأن منطقة الشرق الأوسط ككل تتأثر بالنزاعات ومرّت بصدمات كثيرة ومتتالية، الصدمة الأولى كانت صدمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية سنوات 2007 و2008 و2009، خصوصاً أن أغلبية بلدان المنطقة مستورِدة للحبوب... وهذا انعكس مباشرة على قدرات المواطن على الحصول على الغذاء، وعوضت الدول ذلك ببرامج دعم ضخمة حتى تضمن لسكانها أمنهم الغذائي، ولكن ذلك شكّل عبئاً على ميزانية غالبية الدول خصوصاً تلك التي لا تصدِّر النفط، كما أن هذا الدعم قلل من حجم الاستثمارات المخصصة للتنمية الزراعية والتي هي الدعامة الأساسية لعملية النمو الاقتصادي على المدى البعيد. وبعد ذلك أتى ما سُمى «الربيع العربي» وموجات عدم الاستقرار، وهذه أثرت كثيراً على الاستثمارات والثقة بعملية الاستثمار في العالم العربي ككل، ومن ثم جاءت الأزمات العميقة التي مرت بها سوريا والعراق واليمن وليبيا وانعكست على جميع بلدان الجوار، بدءاً من لبنان حيث كانت التجارة مع سوريا مصدراً أساسياً للتنمية، ونفس الشيء صار مع الأردن، وتأثرت أيضاً بطريقة مباشرة المناطق المجاورة التي قامت باستيعاب اللاجئين. وأدى المناخ العام إلى تراجع الاستثمار الخارجي في غالبية بلدان المنطقة بسبب زيادة الصراعات والنزاعات. ثم جاءت موجة نقص أسعار النفط، والتي أثرت كذلك على كل المنطقة، أثرت على البلدان المصدرة للنفط، وأثرت على قدرة هذه البلدان على أن تساعد البلدان الأخرى. وسلسلة الصدمات هذه أدت فعلا إلى تراجع معدلات النمو في الفترة ما بين سنة 2010 و2014، أو مقارنةً بالوتيرة التي كانت عليها قبل ذلك، مما أثر مباشرة على نسبة من يعانون من الفقر ومن يعانون من الجوع. طبعاً الزيادة السكانية عامل أساسي في معادلة الأمن الغذائي في المنطقة، لأنها تساهم في خلق حالة عدم توازن ما بين القدرة على الإنتاج المحلي نظراً إلى محدودية الموارد المائية والأراضي الصالحة للزراعة، مقابل الطلب المتزايد على الغذاء. > وكل هذه الأسباب مجتمعة دفعت المنطقة إلى سلة «العوز الغذائي»؟ - كلها مجتمعة صحيح... فقد أدت إلى تغير جذري في ظروف معادلة الأمن الغذائي... تغير جذري في عدد السكان الذي تضاعف 3 أو 4 مرات أحياناً منذ عام 1950، وطبعاً كميات المياه لن تزيد؛ بل تتناقص أحياناً بسبب موجات التصحر وموجات الجفاف المتكررة وتلوث المياه، وبالتالي هذا الخلل معالجته في منتهى الصعوبة، وهناك حلول لكن قد لا ترقى إلى مستوى التحدي نفسه، ومن ضمنها طبعاً تحلية المياه وهو مسار متَّبَع منذ زمن بعيد في دول الخليج، وهناك إعادة تدوير المياه المستخدمة، التي يمكن أن تزيد من وفرة المياه بنسبة ما بين 10 و20%. والمسار الثالث هو ترشيد المياه خصوصاً المياه للزراعة، وهذا مصدر أساسي لأن الزراعة في المنطقة تستخدم تقريباً 80% من المتوفر من المياه. ويجدر الذكر أن هناك تجارب كثيرة لاستخدام الري الحديث، مثل الري بالرش والري بالتنقيط في مصر والمغرب والأردن، وغالبية دول المنطقة بما فيها دول الخليج تخطط للانتقال إلى هذه التقنيات الحديثة وتطبيقها على نطاق واسع. لكن لا بد من النظر إلى حلول إضافية، بما فيها حلول خارج إطار قطاع المياه، مثل الحد من الفاقد والمهدر من الغذاء، وهو كما تعلمون كبير جداً خصوصاً في البلدان العربية، وهذا لا يجوز... فكل حبة يتم إهدارها توجد كمية مياه وراءها، وهو عمل شخص ضاع ولم يعوض عنه، وهذه الأمور تتطلب عمل الحكومات والمجتمعات على حد سواء... ويجب على الكل أن يقوم بدوره. > في ظل هذه التحديات التي تواجه سلسلة الغذاء، هل يمكن أن نسأل عن «الفرصة الضائعة» أو «الفرصة البديلة»؟ - هناك فرص بديلة، وهناك استراتيجيات... في هذه المنطقة حتى أكون موضوعياً، مسألة الأمن الغذائي كانت دائماً أولوية أولى بالنسبة إلى الحكومات، لأنها تدرك قبل أي أحد آخر أن إشكالية الأمن الغذائي في المنطقة صعبة، وبالتالي وضعت استراتيجيات لدعم القطاع الزراعي، وضخت استثمارات هائلة لدعم قطاع المياه، ودعم أسعار المواد الغذائية الأساسية حتى يتمكن المواطن من الحصول على قوت يومه بأقل تكلفة... لكن هذه السياسات كذلك بها سلبيات تظهر -كما ذكرت- في الهدر الذي يحصل في عملية استهلاك الغذاء... خصوصاً إذا لم يشعر المواطن في مرحلة ما بالتكلفة الحقيقية للغذاء، ولم يشعر المزارع والمواطن بالتكلفة الحقيقية للمياه، هذا أولاً. ثانياً، تم توجيه المواطنين -بطريقة غير مباشرة عن طريق الدعم والتسهيلات الكثيرة- إلى استهلاك كبير للحبوب، وأصبحت هي المصدر الأساسي لتناول السعرات الحرارية التي تعتمد عليها سلة الغذاء في منطقتنا، وتم إهمال –أو على الأقل تخفيف- المصادر الأخرى، خصوصاً استهلاك الفواكه والخضراوات واللحوم البيضاء، رغم أن لها دوراً أساسياً في توفير المغذيات الأساسية، وأيضاً تستهلك تكلفة مياه أقل ولديها قدرة وعائد أكبر لتصديرها، حين نقارنها بزراعة القمح على سبيل المثال. وعلى الرغم من حسن النية من وراء السياسات الزراعية؛ فإنها كان لها أحياناً بعض الانعكاسات السلبية، وهو ما يتطلب المراجعة في المرحلة القادمة من أجل إحداث توازن أكبر على مستوى الإنتاج والاستهلاك والموارد المائية. > كيف يتم تنسيق التعاون بين دول المنطقة للتكامل الغذائي؟ وما الأولويات المشتركة؟ - دول الشرق الأدنى وشمال أفريقيا تتقاسم عوامل مشتركة، من ضمنها ندرة المياه والتغيرات المناخية ومشكلات التغذية... و«الفاو» تعمل على المستوى الإقليمي مع الدول على مواجهة المشكلات والتحديات التي يمكن أن يحصل فيها تكامل أو تعاون أكبر وتبادل الخبرات، وغيرها. وهناك الكثير من التجارب الجيدة التي تحدث في بلدان عديدة من المنطقة، ومنها خبرات مبنية على مئات السنين من ممارسات زراعية على سبيل المثال في مصر والعراق وسوريا، ويمكن للمزارع في دولة أخرى الاستفادة من هذه القدرات والمعرفة المبيتة والمتراكمة على مدى العقود. والأولويات والموضوعات الإقليمية الجوهرية التي تعمل عليها «الفاو» يتم اعتمادها في مشاورات مع وزراء زراعة المنطقة خلال المؤتمر الإقليمي الذي ينعقد كل سنتين، والدورة المقبلة ستعقد ما بين 23 و27 أبريل (نيسان) المقبل. وعلى سبيل المثال، «الفاو» أطلقت مبادرة ندرة المياه، وهي مبادرة إقليمية تم اعتمادها من طرف جامعة الدول العربية، ويتم في إطارها الكثير من الاجتماعات التشاورية، والعمل الميداني على موضوعات أساسية، مثل الحسابات المائية وإنتاجية المياه الزراعية، والتحضير لمواجهة الجفاف وتغيرات المناخ. ونعمل الآن على بناء منصة لتبادل المعارف والتجارب لندرة المياه. > ختاماً... كيف ترى ملخص الوضع في المنطقة؟ - أولاً، رسالتي الأساسية أن النزاعات هي السبب الرئيس وراء تدهور حالة الأمن الغذائي بالأساس... ثلاثة أرباع من يعانون من الجوع يعيشون في مناطق النزاع؛ وانعكاسات النزاع ليست فقط على الأمن الغذائي، فهناك أيضاً انعكاسات بشرية تتمثل في عدد ومأساة المهجّرين داخلياً واللاجئين، هذه المشكلات قد تتطلب وقتاً طويلاً لحلها. ثانياً، الأزمات جعلت دول المنطقة تنفق أموالاً طائلة على محاربة الإرهاب والنزاعات والعنف، وهذه الأموال من المفترض أن تكون مخصصة أصلاً للتنمية والتحضير للمستقبل، مما يخيم على درجة النمو المستقبلي. ثالثاً، فإن الأنظار اليوم والعقول والأذهان والموارد كلها مصوبة نحو هذه الحروب والنزاعات والعنف؛ بدلاً من أن تكون إلى أمور جوهرية مصيرية مثل: الأمن المائي، والتغيرات المناخية، والتنمية الريفية، وبطالة الشباب، ومستويات التعليم والصحة... وفي الحقيقة هذه هي الفرصة الضائعة الكبيرة. وأخيراً، العمل الجماعي ضرورة ملحّة؛ حيث لا يمكن لأي بلد من المنطقة أن يخرج ناجحاً بمفرده من الواقع الحالي، وهذا ما يوصي به التقرير.
مشاركة :